قالت الأم لابنتها، طبعا لا تذكرين. كنت فى الخامسة من عمرك هادئة الطبع. تقضين معظم الوقت شاردة. تتأملين فى كل ما يحيطك. كنت أنظر فى عينيك أحاول معرفة ما يدور فى عقل طفل فى الخامسة، ولكنه طفل غير عادى. لا يبكى إلا متألما أو عاجزا عن شرح ما يريد أو غاضبا كلما اشتم لا مبالاة الحاضرين فى أمر يخصه. اتصلت بى ذات يوم معلمة الفصل. طلبت تحديد موعد معى فى غيابك لنناقش شأنا يخصك. انتابنى قلق. لم أتصور أنك يمكن أن تتسبى فى مشكلة إلا إذا توقعوا أن تتصرفى كبقية الأطفال، وأنت لست كبقية الأطفال.
• • •
التقينا خارج الروضة. تكلمت المعلمة وفى صوتها علامات إعجاب بطفل، علامات لا تخفى على سمع أم. استمعت فى زهو واضح متأكدة من صدق إعجابها وبخاصة حين قالت: «ابنتك طفلة رائعة. أهنئك، وأهنئ والدها. أهنئ عائلتها التى وفرت بالتأكيد بيئة عامرة بالحب، وإلا ما شبت على هذا النحو. طلبت مقابلتك ليس فقط لأبدى الإعجاب بكم وبها ولكن أيضا لأناقش معكم خشيتى من أن تكبر ومعها خاصية أنا شخصيا لا أشجع على تنميتها فى طفل بعمرها وبتركيبتها العاطفية. أتحدث عن التصاقها بطفل آخر. وحين أستعمل كلمة التصاق فأنا أعنيها حرفيا. ابنتك ترفض بعناد غريب الابتعاد عن هذا الطفل. المثير فى الموضوع أن الطفل الآخر لا يمانع. بل لعله يشجعها. لا تأكل إلا معه. أتردد فى إبلاغك أنها لا تقبل أن تذهب إلى الحمام إلا إذا كان معنا. أتردد أيضا وأنا أنقل لك حقيقة أنها تصر على أن تمسك بيده وهى تمشى من موقع إلى آخر. لا أبالغ إن قلت إنها تقضى الساعات الخمسة ملتصقة به. حاولت وزميلاتى الفصل بينهما وفشلنا. فشلنا حتى فى فك قبضة يدها على يده».
• • •
يا ابنتى، لم تفاجئنى رواية المعلمة، فلعامين متعاقبين كان هذا الطفل يحظى بمرتبة ضيف الشرف فى جميع مناسبات احتفالنا بعيد ميلادك أو شفائك من وعكة صحية أو فرصة ابتدعناها لإسعادك. رحلنا من هذه المدينة لنستقر سنوات معدودة أيضا فى مدينة أخرى ببلد آخر. تغيرت فى الغربة بعض أو أكثر طباعنا مع ما تغير من خصالنا وخصائصنا، وتغير بطبيعة الحال فهمنا للصداقة مفهوما وممارسة. تسرب خارجا جانب غير بسيط من العاطفة ليترك معظم الساحة التى كانت يشغلها لواقعية صماء. اكتشفت بعد وقت أن الأدوات أو الآليات التى كانت عواطفنا تستخدمها فى التعبير عن حب أو إعجاب متطرف قليلا أو حتى عن حال انبهار مفاجئ، كلها وبطول الإهمال أصابها البرود.
كلنا فى العائلة كنا هذا الإنسان حتى أنت وقد صرت فتاة يافعة فى سن المراهقة. بعد شهور قليلة فى هذا البلد لاحظت اهتمامك المتزايد بزميل لك اجتمعت فيه أوصاف جميلة وطباع لا تقل جمالا. بمرور الوقت صار ضيفا مواظبا على حضور جميع المناسبات الاجتماعية فى بيتنا وبيوت الجيران أيضا. لا أنكر أننى كنت فى البداية مطمئنة إلى وجوده فى حياتك فى هذه المرحلة الدقيقة من مراحل نموك. رأيتكما تنضجان معا. تعودت على التصاقكما فى العلن كما فى لحظات السر التى جعلتماها معلنة بإرادتكما الحرة. تصورت لمدة أن العلاقة دليل على نضجك يضاف إلى أدلة أخرى كنت أفخر أمام أبيك وعائلته الممتدة بأننى خالقتها وغارستها فى ابنتنا.
• • •
هلَّ علينا شبابك وما نزال نتنقل بين بلد وآخر. اكتملت أنوثتك. صرت مضرب المثال فى الجمال والجاذبية والرشاقة والعقل الضارب بذكائه فى عمق العلم، وفيما هو فى رأى أبيك أهم وأجدى: عقل ضارب فى جذور الإبداع وفنون الخلق. بقيت الطباع على حالها. إبنة متعلقة بنا لا تبخل علينا برأى فى شأن من شئون عائلتنا الصغيرة، أو بتوصية لو أخذنا بها نحن الأهل لصرنا فى نظرها ونظر أصدقائها أقرب إلى بعض «ترندات» العصر ومزاجه. بدت حياتها بتفاصيل كثيرة سجلا مفتوح الصفحات متجدد الحكايات متعدد الأبطال اللاعبين أدوارا ثانوية. أما اللاعب الرئيس فهو، كما فى حكاياتها منذ الطفولة مرورا بمرحلة المراهقة وصولا إلى مرحلة الشباب، فرد تنطبق عليه مواصفات تكاد تكون المواصفات نفسها التى اتصف بها السابقون فى اختياراتها فى مختلف مراحل حياتها.
• • •
تكلمت ابنتها قائلة «أمى يا أغلى الخلق عندى. أعرف أن قلقا تعتبرونه مشروعا ومتوقعا ينتاب كل أم لشابة فى مثل عمرى. أعرف أيضا أن قلقك ليس بنفس درجة أمهات فى ظروف عادية. أعتذر يا أمى إن تسببت فى رفع مستوى قلقك على مستقبلى كزوجة وأم لبنات وأبناء. كثيرا يا أمى ما كنت أقرأ فى عينيك وعلى شفتيك سؤالا لم تسمحى له بالانطلاق فى اتجاهى. أنا أيضا منعت من التفلت من تحت لسانى تساؤلا كثيرا ما أثار هاجسا بذلت جهدا مكثفا لحصاره وتطويق نفوذه».
«ابنتك يا أمى لا تسمح لنفسها بأن تقع فى الحب. أحسنوا قولا هؤلاء الذين فى الغرب أو فى الشرق اعتبروا الحب مصيدة أو مكيدة «يقع» فيها البشر. تجدين كلمة «الوقوع» فى لغات عديدة لازمة لابد أن تسبق كلمة الحب. نحن يا أمى لا نصعد أو نرتفع إلى الحب. نحن نقع فيه. بهذه المناسبة أود أن أعترف لك أننى منذ صغرى لم أسمع منك حديثا أفهم منه أنك واقعة فى حب أبى. كثيرا ما تساءلت لماذا تفخر امرأة أو تعترف بوقوعها فى حب رجل ثم إذا تزوجته راحت تستنكر أحاديث الحب وتخجل أن تتحدث عنه أمام أولادها.
أعرف صديقات وقعن فى الحب وتزوجن. تعرفين يا أمى أن ثلاثة من الخمس تطلقن خلال شهور. يعنى يا أمى الحب ليس ضمانة لزواج مستقر. الحب، كما وصفته إحداهن لى، شركا ينصب لنا كى لا نرى بوضوح وجلاء تفاصيل وتقاطيع شخصية الرجل. بعض التفاصيل والتقاطيع قبيح وبعضها منفر وأكثرها لا يكشف عن نفسه إلا بعد أن يفوت الأوان.
• • •
أمى، أتساءل لماذا الاهتمام بالحب إن كنا فى غالبيتنا الساحقة كالسابقات والسابقين نستخدم كلمة الوقوع فى الحب فى وصف عملية اندراجنا فى صفوف المحبين والمحبات. أنا يا أمى لن أتزوج رجلا وقعت فى حبه. هذا الرجل إن تزوجته فما هى إلا شهور قليلة حتى أعلم عن شخصيته وأخلاقه ما أخفاه الحب عنى. يذهب الحب يا أمى ويبقى رجل لا أعرف عنه إلا القليل. أحبهم أصدقاء وأخشاهم أحباء. نحن يا أمى لا نقع فى الصداقة ولكن نقع فى الحب. يبدو لك ولى من كلامى أننى اخترت العيش فى جلباب جدتى. تذكرين قولها فى وجودك إنها لم تقع قبل الزواج فى حب جدى الذى تزوجته وعاشت معه غير نادمة العمر كله.
أمى، أقولها بكل الثقة والرضا، لن أتزوج رجلا وقعت فى حبه. أريد رجلا أعرف أنه يصلح لى زوجا ولأولادى أبا.