سمعته يقول فى حضور أصدقاء مشتركين إنه ينوى التخلص من ذكرياته. استشار علماء نفس أحدهم شجعه ووعد بمساعدته. حجته أن بعض أو أكثر ذكرياته صارت تشكل عقبة على طريق صعوده. تكاد ذكريات تشده إلى أدنى وأخرى تشل تفكيره عن المستقبل. تدخَّل صديق باستفسار عما إن كان يقصد التخلص من ذكريات سيئة، ذكريات تركت مرارة وأخرى تعذبه أو تؤنبه وتنشر فى المكان كآبة قبل أن تنحسر. شرح نيته. استمعت إليه وهو يشرح. لم أشأ الاشتراك فى النقاش بعد أن آلمنى بعبارة يعلن فيها أنه حتى الذكريات الطيبة يجب أن تمحى وأن لديه من أسباب قناعته ما يكفى لإقناع المتشككين فى جدوى محو الذكريات، كل الذكريات.
***
كنت فى العشرين وكان فى السابعة وعشرين. كنت فى منتصف المرحلة الجامعية الأولى وكان فى منتصف المرحلة الأخيرة، مرحلة الإعداد للدكتوراه. كنت ريفية التفكير ومحدودة التجارب وكان مدينى التأهيل والاستعداد والخطاب واسع الرؤى والأحلام والتطلعات. رأيته أول مرة عندما كلفه أستاذه بالحلول محله فى التدريس لنا أثناء سفره. عرفته محاضرا فذا استطاع أن يكسبنا إلى صف عقيدته السياسية المختلفة جذريا عن عقيدة أستاذه الذى هو أستاذنا. استطاع أيضا أن يجعل منى امرأة. حدث ذلك عندما استدعانى إلى مكتبه ليطلب منى طبع ورقة بحثية أعدها قبل سنوات ويعتقد أنها يمكن أن تفيدنا. يومها رأيته كما لم أره من قبل. يومها تعلمت كيف أن الفتاة المشاغبة ذات النظرة الجسورة والضحكة العالية تتحول فى لحظة أمام رجل ليس كبقية الرجال إلى امرأة مسبلة العينين مرتعشة أناملها متلعثمة النطق. لم يهدأ لى بال بعد هذا اليوم. تحولت الفتاة الريفية إلى امرأة تجرب تقاليد المدينة. ارتدت ملابسها ونطقت بلهجتها وكتبت عن موسيقاها ورقصت على ألحانها. لم أنكر يوما فضله ودوره. كنت مقنعة فى تحولاتى عاشقة انغماسى فى عالم مختلف عن عالمى الذى نشأت فيه ولكنه عالم حبيبى. لم يتزوجنى ولم أعترض. لم يكن الزواج ليضيف لنا شيئا ثمينا لا نعرفه. تزوج أخرى وتزوجت آخر. أنجبنا صبيانا وبنات. نجحنا فى عملنا بل وتفوقنا وكنا، كل فى مجاله، حديث المجتمع ومجتمعات أجنبية. اتصلت به قبل أيام أهنئه كالعادة على منصب جديد أرفع فكان رده كالمعتاد فى ردودى على تهانيه على جوائز ومناصب جديدة، الفضل لك.
***
أتعامل مع أعمار متباينة وثقافات أحيانا متناقضة. أتعامل فى الحقيقة مع غابة من الخبرات والتجارب والأحاسيس والعواطف. فى تلك الليلة خطر لى أن أثير مع بعض الأصدقاء والصديقات مسألة كثيرا ما شغلت بالى. طرحت مسألة الذكريات وما الفائدة التى تعود علينا من التمسك بها، وهل من الممكن أن نتخلى عنها طواعية بإرادتنا وليس بفعل الزمن، وهل من حافز قوى أو ضرر جسيم من وجودها يدفع للتخلص منها، وهل يحق لشخص أن يمحو ذكريات يشترك فيها مع شخص آخر دون استئذانه. عرضت بعض دوافع اهتمامى بالموضوع. كنت أتحدث قبل أيام مع زميلة على قدر عال من الذكاء وقدر أكبر من الشقاء. تطاردها أحداث من ماضٍ أليم، حاولت بكل الجهد الممكن والمال المتوافر التخلص من التفكير فيها وفشلت. قالت إنها بصدد تدريب نفسها على أن تعيش مع هذه الذكريات بل وأن تستفيد قدر الإمكان من إلحاح وجودها فى حياتها. لن تحاربها بالأدوية وجلسات علاج. لن أرفضها عندما تضغط. سوف أجعلها مادة تسلية وتحذير ونصح، وسوف أضيف إليها من عندى مبالغة هنا وأخرى هناك. لن أتركها تهدمنى وتدمرنى. أخيرا وبعد كفاح السنين للتخلص منها أيقنت ما كان يجب أن أقتنع به منذ زمن، أيقنت أننا، ذكرياتى وأنا، شىء واحد. بدونها لن أكون أنا وبدونى لا تعنى لأحد ما تعنيه لى. الإنسان هو فى النهاية سجل ذكرياته. إذا اختفت أو غابت ضاع.
***
قال آخر «لا تحملوا الذكريات فوق ما تحتمل. أنا مسئول عن ذكرياتى، أنا من صاغها، وحدى أو مع آخرين. بل وكنت أنا من رعاها ورواها. من منا لم يضف بنفسه إلى إحدى ذكرياته جمالا ورونقا وإثارة، وأضاف إلى ذكرى أخرى قتامة وقبحا. أعترف لكم أننى لم أقص تطورا من تطورات سنوات مراهقتى ومطلع شبابى مرتين طبق الأصل. كنت دائما أضيف أو أحذف.
صدقونى، أنا الآن لا أعرف بالدقة الواجبة إن استدعى الأمر الرواية الأصلية لبعض أهم مفاصل حياتى من كثرة ما أضفت وحذفت. أسألكم وأن تجيبوا بكل أمانة، من منكم، ومنكن، حافظ وحافظت على طهر ونقاء ذكرياته. وأحذركم. ذكرياتكم فى الماضى كانت كالصور الفوتوغرافية أبيض وأسود تتجمل برتوش بسيطة هنا وهناك لا تغير من واقع الرواية كثيرا. أما رواياتنا التى نصيغها اليوم عن حياتنا لتصير ذكريات فى يوم قادم فمصيرها على أيدى تكنولوجيات التجميل والتشويه رهيب. ذكرياتنا عن أيامنا الراهنة إذا سلمناها لغيرنا يفعلون فيها ما تفعله التكنولوجيا الحديثة فى قسماتنا وألواننا لن تعكس فى المستقبل حقيقتنا. بمعنى آخر لن أكون أنا وذكرياتى فى المستقبل شيئا واحدا».
***
تدخلت بعد صمت امتد امتداد السهرة. قالت وهى تشير بإصبعها إلى الجالسين فردا فردا، من منكم، وأنا منكم، لا يعيش حياتين فى نفس واحد. من منكم، وأنا منكم، لا يحتفظ بمصفوفتين من الذكريات، مصفوفة للغير ومصفوفة لنا لا يراها أو يطلع عليها غيرنا. هل يعرف شركاء حياتنا وبعضهم قضينا معهم تحت سقف واحد ربع قرن أو أقل أو أكثر، هل يعرفون أننا أحيانا نعيش مع ذكريات لم نبح لأحد عنها.
لدينا هذه الليلة اعتراف نادر من رجل يريد محو جميع ذكرياته لأنه فيما يبدو يحلم بأن يكون شخصا آخر. لاحظنا تردده إزاء ذكرى واحدة يريد ألا تمحى. كيف يكون شخصا آخر وهو يحتفظ بحياته مع ذكرى لا أحد غيره يراها. ولدينا دعوة من صديقة لمؤازرتها فى اعتقادها أنه لا يجوز لطرف فى ذكرى مشتركة محو هذه الذكرى من ذاكرته قبل استئذان الطرف الآخر.
ثم إننى أسأل كم فرد منا حرر نفسه تماما من طعم ورائحة أول علاقة عاطفية فلم يعد يجعلها أداة قياس يقيس بها كل حضن أو قبلة أو لمسة حنان وحب يفيض زمانه عليه بها. أعرف صديقات وقريبات بلغن الخمسين وما زلن يستخدمن هذه الأداة.
***
الذكريات ضرورة فيما يبدو، والذكريات النقية التى لم تمتد إليها يد المبالغة أو التشذيب أو مراعاة الظرف والحال ضرورة أبقى وأهم. أنا لست أنا إن عشت مع ذكريات زيفتها بقلمى أو لسانى، والحقيقة تغيب ويحل الزيف محلها ويغمر حياتى وربما حياة آخرين إذا أنا محوت ذكريات واختلقت غيرها.