منذ أقل من أسبوعين انتهت اجتماعات الدورة 79 للجمعية العامة للأمم المتحدة فى نيويورك. لقد كنت مهتما (من باب الهم) أثناء الدورة نظرا لازدحام المدينة الشديد أثناءها مما كان يجعل ذهابى للجامعة مهمة ليست باليسيرة. لكن مقال اليوم ليس عن همى المتعلق بالمواصلات لكن عن اهتمامى بما يتعلق بالبيئة والاجتماعات التى تمت بهذا الشأن، وأقصد البيئة بالمعنى المجمل وليس فقط الاحتباس الحرارى، وبحكم التخصص تأثير التكنولوجيا على البيئة سواء بالسلب والإيجاب.
التكنولوجيا بجميع أنواعها لها مزايا وعيوب، إذا غلبت المزايا العيوب فالتكنولوجيا مفيدة لنا، أما إذا كان العكس ففى الأغلب الأعم سيقوم فريق التسويق للشركات العملاقة المنتجة لتلك التكنولوجيا بإخفاء العيوب أو إظهارها فى صورة مزايا حتى يستخدمها الناس، للأسف. لذلك سنحاول فى هذا المقال إلقاء نظرة موضوعية على موضوع التكنولوجيا والبيئة.
...
هناك مفهوم استحدثه خبراء الاقتصاد يسمى اقتصاد الدونات (doughnut) والدونات هى تلك الكعكة الشهيرة ذات الدائرة المفرغة فى المركز. شكل الكعكة يمثل دائرتين إحداهما صغيرة وتقع داخل الدائرة الأخرى الكبيرة. لنتخيل أن الدائرة الصغيرة تمثل الحاجات الأساسية التى يحتاجها الإنسان، الحاجات فى الدائرة الداخلية مختلفة قليلاً عن هرم ماسلو (Maslow) الذى يمثل الحاجات الأساسية فى تشكيل هرمى تشكل قاعدته الحاجة إلى المأكل والملبس والسكن إلخ ثم يتدرج لحاجات أكثر رفاهية. الدائرة الداخلية فى نموذج الدونات تمثل الصحة والماء والطاقة والطعام والدخل والمسكن والتعليم والمساواة والسِلْم والحقوق السياسية. تمثل تلك الدائرة الحد الأدنى كى يعيش الإنسان حياة كريمة. الدائرة الخارجية تمثل المستوى الذى عنده تتأثر البيئة والطبيعة من حولنا تأثرا سلبيا، تمثل تلك الدائرة الكبيرة تآكل الأوزون والاحتباس الحرارى والتلوث البيئى إلخ. شكل الكعكة هذا يشير أننا نبدأ من الدائرة الصغرى ثم نتجه نحو الدائرة الكبرى، هذا الاتجاه معناه زيادة فى رفاهية الإنسان من طعام أكثر ومسكن أفضل إلخ، هذا الاتجاه إلى الرفاهية يستهلك معادن ومياه إلخ ويؤدى إلى التلوث نقص الرقعة الزراعية إلخ، أى يؤثر على البيئة حولنا. الهدف أننا نتجه من الدائرة الصغرى نحو الدائرة الكبرى دون أن نصل إلى الدائرة الكبرى التى تمثل ضررا كبيرا للبيئة. الموقع المثالى هو بين الدائرتين، لكن هل التكنولوجيا التى نستخدمها فى عصرنا هذا تضعنا فعلاً بين الدائرتين؟
...
تحدثنا فى مقال الأسبوع الماضى عن الطاقة الضخمة التى تحتاجها أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة والتى هى المكون الأساسى لتدريب برمجيات الذكاء الاصطناعى وبدونها لم تكن برمجيات مثل (ChatGPT) لترى النور، وهذه نقطة جيدة لنبدأ منها بعض الأمثلة التى توضح التأثير السلبى للتكنولوجيا على البيئة:
• توليد الكمية الضخمة من الطاقة التى تحتاجها أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة تمثل ضغطا كبيرا على الدول التى تحاول توفير الطاقة لساكنيها، أيضا توليد الطاقة مازال يعتمد فى أغلبه على الوقود الأحفورى وهو ملوث للبيئة، هناك اتجاه متزايد لاستخدام طاقة نظيفة ومتجددة لكنها ما تزال غير كافية.
• السواد الأعظم من الأجهزة التى نستخدمها تعتمد على الرقائق الالكترونية (chips) وهى تحتاج لمعادن معينة ومنها معادن ليس من السهل استخراجها. التنقيب والبحث ملوث للبيئة وأيضا فى بعض الأحيان يمثل خطرا على التنوع البيولوجى إذا كان التنقيب فى أماكن تعيش به بعض الحيوانات أو الطيور.
• الزيادة السكانية والتقدم الهائل فى عمليات البناء وسرعاتها تؤدى إلى زيادة تجريف الأراضى الزراعية نتيجة الزحف العمرانى مما يقلل المساحة الخضراء التى تجدد الهواء، ناهيك أن تلك المساحة الخضراء هى مصدر الطعام للعدد المتزايد من السكان.
• العدد المتزايد من المصانع التى تلوث الجو ووسائل التنقل التى ما زالت تعتمد فى أغلبها على الوقود الأحفورى أدت إلى الاحتباس الحرارى، إذا لم يتحرك العالم ليفعل شيئا وزادت متوسط درجة الحرارة أكثر من ثلاث درجات فإن الكوكب سيواجه مشكلات كبرى مثل ذوبان الجليد والفيضانات إلخ. يجب أن نعترف أنه مع التقدم التكنولوجى الذى وصلنا إليه ما زلنا لا نستطيع التعامل مع غضب الطبيعة.
هذه القائمة هى مجرد أمثلة، ولكنها توضح الأضرار الجسيمة التى يسببها الاستخدام غير المسئول للتكنولوجيا. ماذا لو أصبحت التكنولوجيا أكثر كفاءة وأرخص ثمناً؟ فى هذه الحالة سيقبل عليها عدد أكبر من الناس وهذه الزيادة فى عدد مستخدمى التكنولوجيا سيضر بالبيئة. مثلاً لو أصبحت السيارات أرخص وأسرع سيشتريها عدد أكبر مما يؤثر على البيئة، وهذه قاعدة اقتصادية تسمى معضلة جيفونز (Jevon paradox). هذا معناه أن تحسين كفاءة التكنولوجيا فقط غير كاف.
طبعا هذا لا يعنى أن التكنولوجيا سيئة.
...
التكنولوجيا لها أياد بيضاء على الجنس البشرى فى كل مناحى الحياة من صحة وزراعة ومواصلات وتعليم وحتى الترفيه. لكن مع وجود التكنولوجيا فى كل ركن من أرجاء الكوكب بشكل أو بآخر يجب أن نطورها بطريقة تقلل من الأخطار وتزيد من الفوائد، لكن هناك مشكلتين:
• الانبعاثات الحرارية والاحتباس الحرارى يحدث نتيجة المصانع فى الدول الصناعية الكبرى، هذه الدول فى الأغلب لا تريد التقليل من التصنيع. إذا طلبت أمريكا من الصين ذلك فسترد الصين أن أمريكا استمرت فى تلويث العالم لمدة قرنين فى مصانعها فلماذا لا نأخذ نفس الفرصة؟ هذا طبعا مثال، ولكنه يوضح كيف تتدخل السياسة فى المشاكل البيئية.
• الشركات العملاقة عابرة القارات والتى تبلغ ميزانية شركة واحده منها ميزانية دولة تضع مصلحتها أولاً والمتمثلة فى المبيعات قبل النظر فى أية أمور أخرى. هنا نرى الاقتصاد القاسى هو الذى يؤثر على البيئة.
تأثير التكنولوجيا على البيئة ليست مشكلة دولة واحدة أو شركة واحدة، بل هى مشكلة الكوكب كله بجميع طوائفه.
...
بعد هذه الجولة السريعة ماذا بيدنا أن نفعل؟ هناك عدة أشياء:
• يجب زيادة المحاضرات فى الجامعات والمدارس عن أهمية الحفاظ على البيئة والأخطار التى سيواجهها العالم إذا أغفلنا ذلك.
• العمل على توعية رجل الشارع عن طريق شرح التعامل الصحى مع البيئة من التقليل من استخدام البلاستيك وما شابه. هذه النقطة مهمة لكن تطبيقها ليس سهلاً. فى المناطق الراقية والغنية هذه التوعية ستؤتى ثمارها، أما فى المناطق الأكثر فقراً فلن يستمع الناس لهذا الكلام لأن من لا يجد قوت يومه لن تهمه البيئة. فى تلك المناطق فإن منظمات المجتمع المدنى يجب أن تتدخل بنفسها لتدوير المخلفات بطريقة صحيحة إلخ طبعا بالتعاون مع الجهات المعنية.
• زيادة الأبحاث فى الجامعات والمراكز البحثية المتعلقة بتوليد الطاقة النظيفة وتقليل الطاقة المستخدمة فى الحاسبات وتدوير المخلفات إلخ.
التعامل الصحى مع البيئة هو مجهود يجب أن يشترك فيه الجميع، إن لم يكن لنا فلأبنائنا وأحفادنا، فالطبيعة لا تنسى الإساءة.