مكر التاريخ إذ يفعل فى الحاضر - علي محمد فخرو - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:30 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مكر التاريخ إذ يفعل فى الحاضر

نشر فى : الخميس 12 يناير 2017 - 9:50 م | آخر تحديث : الخميس 12 يناير 2017 - 9:50 م

ظاهرة الجهاد التكفيرى العنيف، ممثلة فى الوقت الحالى «بالقاعدة» وفراخها، ستبقى لاعبا رئيسيا فى ساحات السياسة والثقافة العربية لسنين طويلة قادمة.


وككلٌ الظواهر المتشابكة المعقدة ستحتاج إلى مزيد من فهم جذورها ومسبباتها كلما طال عليها العهد وزادت مخاطرها.


وحتى الآن تركزت دراسة هذه الظاهرة حول جذورها الفقهية الإسلامية واستعمالات أصحابها الانتهازية لذلك الفقه فيما يرتكبونه من حماقات خارج العقل وخارج العدل الإلهى. لكن هناك الجانب التاريخى الذى يستحق أن يدرس كتفسير جزئى لهذا البلاء الإرهابى الذى يعم الأرض العربية. ذلك أن التاريخ لا يكشف مدى التطابق والتماثل بين أحداث الحاضر وأحداث الماضى فقط وإنما يكشف ايضا مدى استمرارية أفكار وثقافات وسلوكيات وهواجس الماضى فى واقع الحاضر.


***


من هنا حاول البعض إجراء ذلك من خلال عمل مقارنة دينية وسياسية بين فكر وممارسات مجمل حراكات الجهاد التكفيرى العنفى فى حاضرنا وبين فكر وممارسات حركة الخوارج فى التاريخ العربى الإسلامى.


إن أهم تشابه هو فى أمرين. الأمر الأول هو فى الشعار السياسى، الكامن وراء قناع دينى، القائل بأن «لا حكم إلا لله». وهو شعار رفعه الرافضون للتحكيم الشهير فيما بين جيش الإمام على بن ابى طالب من جهة وجيش معاوية بن ابى سفيان من جهة ثانية. وهو الشعار الذى بقى الأساس والمنطلق لا فى بداية تكون حركة الخوارج، بل طيلة عنفوان وجودها العسكرى والسياسى الثورى لعقود طويلة.


إن أخطر ما فى ذلك الشعار هو أن الخوارج نصبوا أنفسهم كمحتكرين وحيدين لتفسير معنى ذلك الشعار وما يترتب على ذلك التفسير من صراعات سياسية وعسكرية. لقد كان على الجميع قبول قراءتهم للقرآن وتفسيرهم لآياته، وبالتالى قيامهم بالإفتاء وباستنباط الأحكام على ضوء تفاسيرهم تلك.


***
أليس أساس ومنطلق شعارات الجهاد التكفيرى حاليا هو نفس الشعار، واحتكار تفسيره من قبل اتباع «القاعدة» وأخواتها، وعدم قبول وجهات نظر كل المرجعيات الدينية الكبرى، هو الذى تمارسه قيادات تلك الحركات؟ أليس تغليف الممارسات العسكرية والسياسية تجاه الأبرياء وتغليف النهب الاقتصادى بالوجه الدينى لذلك الشعار هو الذى نراه فيما يسمى بدولة الإسلام؟


ثمُ أليس رفع شعار «البيعة لله عزُ وجل»، الذى رفع لتبرير رفض إعطاء البيعة للإمام على فى السابق، هو نفس الشعار الذى يرفع الآن لرفض كل سلطة حكم فى أرض العرب، حتى ولو انبثقت عن انتخابات معقولة ونزيهة كما هو الحال فى تونس على سبيل المثال؟


الأمر الثانى هو التشابه فى استعمال العنف الهمجى فى شتى اشكاله. فمثلما رد الخوارج على عنف الدولة الأموية بعنف تجسد فى عمليات انتحارية استهدفت رجالات الأمن وأعوان السلطة من جهة، وطالت مسلمين أبرياء فى بعض الأحيان، فإن الجهاد التكفيرى يتفنن اليوم فى تنفيذ عمليات انتحارية دامية وبشعة بحق الأبرياء من المصلين والمتسوقين والمرتادين للمطاعم والمدارس. وكما تجسد العنف فى الماضى فى شكل استعراضات علنية بشعة فى طرق قتل المخالفين والمترددين نراه اليوم ممارسا فى طول وعرض العالم من قبل أتباع الجهاد التكفيرى العنفى.


ذلك التشابه هو مكر التاريخ إذ يتلاعب بالحاضر ويشوهه. وهو تشابه انتقائى يتبنى الغلو فى الدين الذى لا يمكن إلا أن يقود فى النهاية إلى عدم فهم الدين.
***


إلى هنا وينتهى التشابه، وهو تشابه بين المتطرفين والمتعنتين فى الماضى والحاضر. فقد كان بين قادة الخوارج أصحاب ورع وزهد، وكان شعورهم بموضوعى الحق والعدل شعورا طاغيا، وكان إصرارهم على إقامة الإمام الصالح بصرف النظر عن نسبه ولونه وذلك من خلال الاختيار والبيعة موقفا سياسيا ودينيا ملفتا للنظر، وكانت مقاومتهم لظلم بعض الحكم الأموى ثورية ومحقة، وكان فهمهم لبعض الجوانب الفقهية أفضل من فهم الآخرين، وككل الحراكات الكبرى فى التاريخ انقسموا مع مرور الوقت إلى عدد كبير من الفرق والتوجهات والأفكار والممارسات المتنافرة مع بعضها البعض والتى فيها الصالح والطالح.


لكننا معنيون بالأفكار والممارسات المتطرفة غير العقلانية التى صبغت حركة الخوارج، خصوصا فى مراحل تكونها الأولى، والتى يظهر أنها استمرت عبر القرون فى الكمون فى ثقافة الأمة الدينية والسياسية، لتظهر الآن فى العلن فى شكل انفجارات هائلة وممارسات بشعة تهدد مستقبل هذه الأمة.

 

***
ما نحتاج أن نعيه هو أن ذلك التشابه دليل آخر للحاجة الملحة لمراجعة تفكيكية نقدية للإرث العربى والإسلامى. وهى مهمة بدأها كبار العلماء والمفكرين منذ قرنين، ومازالوا يقومون بها.
لكن ما يحزن هو أن الوصول إلى نهاية تلك المهمة ستطول وتطول فى امتدادات مستقبل أمة العرب ووطن العرب ما لم توضع جهود أكبر وأكثر فاعلية فى الواقع العربى المتردى.

علي محمد فخرو  شغل العديد من المناصب ومنها منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971 _ 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982 _ 1995. وأيضا سفير لمملكة البحرين في فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدي اليونسكو. ورئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضو سابق المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضو سابق للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية. وعضو مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبييشغل حاليا عضو اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط بالبنك الدولي، وعضو في لجنة الخبراء لليونسكو حول التربية للجميع، عضو في مجلس أمناء الجامعة العربية المفتوحة، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث.
التعليقات