الذى ينتظره سيد درويش - سيد محمود - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 2:57 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الذى ينتظره سيد درويش

نشر فى : الثلاثاء 12 سبتمبر 2023 - 7:00 م | آخر تحديث : الثلاثاء 12 سبتمبر 2023 - 7:00 م

ردت مصر الجميل لسيد درويش وأكرمته شعبيا بحيث أصبح فى الوجدان الشعبى اسما لا يمكن نسيانه، فهو (فنان الشعب) الذى يعرفه الجميع، وفى مقابل هذا التكريم الشعبى هناك عشرات التكريمات الرسمية التى لم تصل ربما إلى ما يمكن أن نتمناه لفنان مثله، قرأ الشاعر الراحل فؤاد حداد عطاءه بجملة فذة حين كتب على لسانه (ورفعت فنى إلى مقام الشعب) تستحق هذه الجملة أن نتوقف أمامها طويلا، حيث لا يمكن فهم تدفق موهبة سيد درويش بمعزل عن الفترة التاريخية التى لمع فيها، فالسنوات الأخيرة من حياته تمثل المنعطف الأهم، على الأقل فيما يتعلق بصياغة الوجدان الشعبى العام، وهى ذاتها السنوات التى خضع فيها إنتاجه لما يسميه نقاد الأدب (الأسلوب المتأخر) حيث يتجلى العطاء فى صورة مكتملة، تدفع كل فنان لاستبعاد كل ما هو زائد والنظر لتجاربه بكثير من الزهد الفنى، فقد بلغ فيها الحد الذى ينبغى التوقف بعده فهى سنوات (الخلاصة). تحولت مصر فى السنوات التى سبقت ثورة 19 وأعقبتها إلى عمل فنى أو فكرة جمالية خالصة، بتعبير الناقد الراحل ناجى نجيب، وبخلاف ما طرحه الواقع من قضايا سياسية مهمة، فإن التعبيرات الثقافية والفنية التى أوجدتها الفترة كانت فارقة فى تاريخنا كله، فقد تشكل معها الجيل الإبداعى الذى يسميه الكاتب المصرى الرائد يحيى حقى (جيل ثورة 1919) الذى حمل على عاتقه مهمة التحديث، وطرح فى المجال العام الذى تشكل وقتها تساؤلات جديدة بشأن الهوية الوطنية والهوية الإبداعية التى كانت تواجه تحديات نتجت عن تزايد سبل التواصل مع الثقافة الغربية.
جرت فى تلك الفترة عدة محاولات لخلق ما يسميه الدكتور صبرى حافظ (متخيل وطنى) حول الثورة يقارب المعنى الذى طرحه بندكت أندرسون فى كتابه المهم (الجماعات المتخيلة) حيث لا توجد ثورة حديثة ناجحة إلا وعرفت نفسها بـ(الثورة القومية). وفقا لأندرسون يتشكل المتخيل الوطنى من عناصر قائمة تستثمر اللقاء الطبيعى بين فكرة القومية وفكرة الأمة وهو لقاء يضع الإنتاج الإبداعى كله فى إطار الايديولوجيا القومية الواعية لذاتها والساعية نحو بلورة مفهومها المستقل عن الأمة.
وفى سياق تلك التحولات ينشأ عادة مفهوم جديد للزمن، يفصل زمن المعايشة الدينية عن الزمن اليومى المعاش، وهذا التحول بالذات كان ثمرة من ثمار الحداثة الغربية ويمكن تلمسه فى أغنيات الحياة اليومية التى أبدعها سيد درويش والاستدلال عليه بقراءة ما كتبه الرائد يحيى حقى حول أدب جماعة (المدرسة الحديثة) الذى نشأ فى أحضان ثورة 1919 كما نشأت موسيقى سيد درويش، وهكذا ارتبطت انتفاضة الأمة بضرورة انبعاث ثورة إبداعية أخرى فى الأدب والفن.
لم تختلف مهمة سيد درويش عن مهمة غيره من رموز تلك الفترة الذين جاءوا من خلفيات دينية ومن بيئات ثقافية محافظة، وهو مثل طه حسين والأخوين على ومصطفى عبدالرازق وغيرهم ممن خاضوا معركة مزدوجة، تقوم على إزاحة الإرث التقليدى وفى نفس الوقت بناء تصور جديد على أسس هوياتية واضحة. وبالنظر فى عوالم الموسيقى والغناء فإن الثابت تاريخيا أنه بفضل خريجى الأزهر الشريف نهض الغناء المصرى فى الربع الأول من القرن العشرين نهضة واضحة، ساعد عليها الطفرة التى تمثلت فى نظم الإنتاج سواء بظهور الاسطوانة أو المسارح الصغيرة وفى ظل تلك الأجواء تبلورت الظاهرة التى نسميها (مشايخ الطرب) والتى شملت مجموعة من الأسماء المهمة من أمثال الشيخ سلامة حجازى (1852ــ1917) والشيخ أبوالعلا محمد (1884 ــ1927) والشيخ زكريا أحمد (1896ــ1961 ) ومحمد القصبجى (1892ــ1966) ويؤرخ الدكتور عصمت النمر لجهود هؤلاء فى كتاب مهم صدر أخيرا بنفس العنوان، لافتا إلى أن مناهج التدريس فى الأزهر الشريف كانت تشمل تدريس تجويد القرآن الكريم وتشترط إجادة التحويلات المقامية إجادة تامة مما ساعد على تخريج مجموعة من النوابغ فى علوم قراءة القرآن الكريم ولعب هؤلاء المشايخ الدور الأهم فى إعادة الغناء العربى إلى أسلوبه المتقن، وطوعوا التراث الصوفى الدينى للغناء الدنيوى. يدلل النمر على عدم وجود شبهة فى تحريم الغناء بواقعة قيام الشيخ عبدالرحمن قراعة، مفتى مصر (1862ــ1939) بتأليف أغنيات للمطرب عبده الحامولى (1836ــ 1901) كما يتضمن كتابه الكثير من الإشارات إلى الدور الذى لعبه الأزهريون فى أول مؤتمر للموسيقى العربية عام 1932
ومن المدهش حقا أنه بعد مائة عام من وفاة سيد درويش لا تزال هناك الكثير من كنوزه الموسيقية غائبة، وهو ما يؤكد عليه عصمت النمر الذى بذل الكثير من الجهد لرقمنة تراث الموسيقى العربية لحماية هذا التراث من الاندثار، إلا أن جهوده توقفت لأن المهمة تحتاج إلى جهد مؤسسى ينبغى أن تقوم به الدولة وهو ما ينبغى أن نفكر فيه ونحن نحتفل بمئوية سيد درويش لأن المجهول فى إنتاجه أكثر بكثير من المعلوم، كما أن المئوية تمثل مناسبة للتساؤل لماذا توقفت الحفلات التى كانت تعيد صياغة أعماله بطريقة تلائم الأوركستر السيمفونى ولماذا توقفت المسارح عن تقديم (ريبرتوار) لأعماله المسرحية التى تحتاج الأجيال الجديدة لاكتشافها.