«كلكم راع وكلكم مسئول ــ يعنى مُساءل ــ عن رعيته»...... الأصل أن شعورا دائما بالقلق من مساءلة ومحاسبة حتميتين هو الذى ينبغى أن يلازم أصحاب المناصب الكبرى والحساسة قبل غيرهم، لا أن يستبدل باطمئنان غير محدود وركون واثق إلى حصانة قانونية أو حتى شعبية.
والغريب فى آخر قانون أتحفتنا به قرائح حكومة الببلاوى، قانون «حسن النية» أنه ليس فقط مؤشرا على منهجية فى التفكير تركز على التحصين وعرقلة المحاسبة قبل البحث عن حقوق شعب اكتوى بالفساد عقودا، وإنما هو مؤشر على أن عيوب الإخوان التى ظهرت بالممارسة الفعلية للسلطة والتشريع فى آن واحد، هى قواسم تأبى بقية النخبة السياسية إلا أن تشاركهم فيها!
ما كنا نعيبه على مجلس الشورى السابق من إصرار على إصدار التشريعات الواحدة تلو الأخرى استباقا لمجلس الشعب المنتخب بغير ضرورة ملحة ــ وكنا من نقبل نسجل نفس الملاحظة على الرئيس السابق ــ تمارسه الآن لحكمة الانتقالية بشكل أعظم استفزازا.
قانون مشبوه يظهر تنظيما للتظاهر وحقيقته إلغاء وسلب لهذا الحق، تلاه قانون يدعى مواجهة الإرهاب وكثير من مواده مسوغات جاهزة لاعتقال كل صاحب رأي مخالف، والآن قانون يثير سخرية كل من اطلع على عنوانه قبل مضمونه ويتندر على ثورة قامت يوم قامت لتنفجر فى وجه الفساد المالى لمسئولين ظنوا أن مصر ضيعتهم الخاصة «عزبتهم يعنى!» فيأتى قانون كهذا ليعمق هذا الفساد ويزيد جذوره رسوخا فى التربة المصرية... بل ويلقن المجرم مسبقا حجته الدامغة فى وجه أى حساب.... كانت نيته حسنة!
وقديما استقى الفقهاء من حديثى النبى صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى« و«من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» استقوا من كليهما قاعدة ذهبية صارت بعد ذلك من أبجديات القواعد القانونية لكل مجتمع إنسانى، قاعدة تقول «إن النية الصالحة لا تصلح العمل الفاسد».... عبث إذن أن أطلب منك الآن التوجه بالسؤال لكل عتاة الإجرام القابعين فى غياهب السجون عن نيتهم وقت اقترافهم الجرائم.. أحسنة كانت أم سيئة.
عندى شعور بأن «النية الحسنة» موجودة الآن لدى الكثيرين لتحصين مناصب بعينها لئلا تتكرر ــ فقط تتكرر ــ محاكمات رموز نظام مبارك فى المستقبل، وهذه النية الحسنة إن كانت قد وجهت بعاصفة من الانتقاد والسخرية فى المحاولة الأولى لوضعها موضع التنفيذ، فلن يعدم أصحابها فرصة جديدة للتمرير بقانون آخر وتحت غطاء مختلف.
يا حكومة مؤقتة... إن كانت عدوى التشريع قد استفحلت فيكم إلى هذه الدرجة التى نرى، فلتأخذوا فى اعتباركم قضايا كالحد «الأقصى» للأجور، ومثل تضارب المصالح حتى لا نرى وزراء رجال أعمال مرة أخرى، وغير ذلك مما يراه الشعب ملحا..أم أن هذا لا يصلح مؤشرا؟