عشق التنوع - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:55 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عشق التنوع

نشر فى : الأربعاء 12 نوفمبر 2014 - 9:05 ص | آخر تحديث : الأربعاء 12 نوفمبر 2014 - 9:05 ص

فى شهر يناير الماضى توفيت عن عمر يناهز التسعين السيدة مارى سميث جونز فى مدينة أنكوريج بولاية ألاسكا، كانت السيدة جونز الوحيدة فى قبيلتها التى بقيت تتحدث بطلاقة لغة اياك Eyak، بما يفهم منه أن موتها كان يعنى فى الوقت نفسه موت لغة أخرى من بين 6800 لغة، هى كل ما تبقى لنا من لغات على هذا الكوكب. يقدر العلماء أنه بنهاية القرن الحالى سوف تكون قد اختفت أكثر من 50 ٪ من هذه اللغات، وفى تقديرات أخرى 90 ٪.

•••

بعضنا قد لا يدرك بشكل جيد معنى موت لغة. اللغة حين تموت فتموت معها ثروة معرفية، قوامها الأسطورة والخرافة والفن والعلم والأدب، وفوق هذا وذاك تموت الحكمة المتوارثة وقد يموت معها الدين الذى قام عليها. اللغة وعاء يحفظ هذا الموروث، بل وأكثر من ذلك، وحسب اعتقاد الشعوب الأصلية فى أمريكا الجنوبية، هى السبيل لتأمين طريق المستقبل، فالمجتمع الذى يتجاهل فى هندسة مستقبله وفى فلسفته وأبنيته قوة الموروث وتأثيره لن يتحمل هزة أو أزمة. والتاريخ شاهد على مجتمعات لم تتحمل كوارث طبيعية وثورات وانتفاضات وثورات لأنها لم تستوعب دروس الماضى.

•••

بدا لى مثيرا للدهشة فى السنوات الأخيرة الاهتمام الشديد فى مجتمعات الغرب الأكاديمية بقضية الانقراض المتسارع لأنواع عديدة من الكائنات، نباتية وحيوانية. الأرقام المتداولة مذهلة، والعواقب الرهيبة أيضا مذهلة. نسمع عن خطر انقراض الأفيال ووحيد القرن وأنواع من النمور السيبيرية، وعن حيتان تنتحر بالمئات. نقرأ عن أنه منذ عام 1970، وهو العام الذى احتفلت فيه البشرية بالكوكب الذى تعيش عليه، وخصصت له يوم الأرض عيدا، فقدت الطبيعة أكثر من ثلث كائناتها. تفقد نوعا من الحاصلات الزراعية كل ست ساعات، ونوعا من الحيوانات كل خمس دقائق، وفقدت بالفعل ثلث اللغات، التى ينطق بها سكان الكوكب.

•••

لا يختلف العلماء كثيرا حول السبب. المذنب الرئيس هو الإنسان. كل خطوة يخطوها على سطح الكوكب، أو فى أجوائه أو أعماقه، تتسبب فى تغيير بنية هذا الكوكب. كلاهما، الطبيعة والإنسان، يتبادلان التأثير، فالطبيعة ترد للإنسان عاقبة ما فعل ولا مفر للإنسان سوى تغيير بعض سلوكه وطباعه.

خلال هذه العلاقة التى امتدت عبر آلاف السنين استطاع طرفاها التأقلم، الواحد مع الآخر، إلى أن جاءت مرحلة العولمة والزيادة الكبيرة فى التجارة الدولية. قال أحد العلماء فى وصف هذه المرحلة، بأنها كانت المرحلة التى شهدت مقتل مئات الأنواع من الكائنات، قتلت أنواعا شتى من الحيوانات، ودمرت المئات من أنواع المحاصيل الزراعية، وفى الوقت نفسه شجعت على سرعة انقراض تقاليد وموروثات ثقافية عديدة.

•••

كان قرار إعدام العديد من الكائنات والثقافات واللغات متضمنا فى مبادئ العولمة وقواعدها وفلسفتها، وبخاصة مبدأ النمطية وقاعدة توحيد المقاييس والمعايير وانتاج سلع متطابقة وفرض مناهج موحدة وأساليب حياة متقاربة. اختفت ثلاثة أرباع المحاصيل الزراعية، التى تعودت على إنتاجها شعوب عديدة فى العالم النامى، بل وفى العالم المتقدم، لصالح محاصيل جرى تخليقها. اختفت فى مجتمعات عديدة وسائل ترفيه تقليدية أو محلية الطابع لصالح وسائل معينة جرى تعميمها، وتراجع حتى كاد يندثر إنتاج مخرجات ثقافية وتصلبت فى مجتمعات عديدة شرايين الإبداع فى مجالات الثقافة الوطنية والشعبية لصالح منتجات «عالمية».

•••

لم أكن يوما ضد «التقدم» بمعناه السائد حاليا فى حضارة الغرب، ولست بالتأكيد مع «التحجر»، الذى نفخر به أحيانا تحت عناوين الأصالة والتاريخ وحضارات آلاف السنين. أنا مع التنوع. لا أتصور نفسى سعيدا فى مجتمع كل الوجوه فيه بيضاء وعيونها زرقاء وشعرها أصفر، ولا فى مجتمع كل الوجوه فيه سمراء، بعيون سوداء وشعر أسود، ولا فى مجتمع كل أفراده قصار القامة أو كلهم طوال القامة. أعرف عن نفسى أننى لن أتحمل كثيرا العيش طويلا فى بيئة تمتد الصحراء فيها برمالها الصفراء حتى الأفق أو على شاطئ بحر أو محيط، لا أرى أمامى وعلى امتداد البصر إلا المياه الزرقاء.

كذلك لا أظن أننى أسعد كثيرا فى رفقة إنسان يحكى لساعات أو أيام حكاية واحدة لا تتغير، أو فى صحبة كتاب وصحيفة ومقال يكرر فكرة واحدة ورأى واحد. أعرف هذا عن نفسى، وأعرفه عن أصدقاء عديدين، كلهم عشاق التعدد، تعدد الآراء وتنوع الأشخاص وتباين الشخصيات، كلهم يخافون أن يأتى عليهم يوم يستيقظون فيه جميعهم على رأى واحد، وينامون جميعهم على الرأى نفسه.

•••

كروافورد هولنج، صاحب نظرية المرونة والقدرة على التكيف فى العلاقة بين البيئة والإنسان Theory of Resilience، يعتقد أنه آن الأوان لكى يضع صناع السياسة ومخططو التنمية فى اذهانهم احتياجات البيئة عند التفكير فى تشييد مشروع قومى ضخم أو بناء مدرسة أو شق طريق. يعتقد أن حساب علاقات التكيف بين سلوك الإنسان وظروف الطبيعة شرط أساسى لنجاح أى مشروع يقدم على تنفيذه الإنسان، بمعنى آخر يكاد الرجل ينصح بتعيين شخص فى كل لجنة تشكلها حكومة أو شركة لتخطيط مشروع يكون «مسئولا عن الطبيعة» فينوب عنها فى المناقشات ويفاوض باسمها ويدافع عن حقها.

•••

بات واضحا لنا نحن شعوب هذه المنطقة، أن وقع النكبات على الشعوب يختلف باختلاف مدى المرونة فى مجتمع ومدى التحجر أو الجمود فى مجتمع آخر. خرجنا من تجربة تاريخية معتبرة بقاعدة ذهبية تلخصها العبارة التالية «فى الأزمات تنفرط الأمم التى تقولبت لمدة طويلة فى قالب الرأى الواحد، وتصمد ولو إلى حين تلك التى عرفت بشكل أو آخر وبدرجة أو أخرى التنوع والتعدد».

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي