لا يخفى على مسئولى الولايات المتحدة وأوروبا، عندما يفرضون عقوبات أحادية الجانب على دولةٍ ما، أن تلك العقوبات ستؤثر بشكلٍ كبير على معيشة مواطنى هذا البلد. خاصة عندما تُفرَض على مؤسسات حكومية أساسية، كالمصرف المركزى، أو على التجارة الخارجية أو عندما ترمى إلى الضغط علنا أو مواربة على الدول والشركات التى تتعامل مع الدولة المستهدفة. بل إن الهدف الحقيقى لهذه العقوبات يقوم بالتحديد على إفقار شعب البلد إلى حدٍّ لا يُطاق ودفعه للثورة وصولا إلى طرد السلطة القائمة المستهدفة أو إرغامها على «تغيير سلوكها»! وتنتشر هذه الوسيلة للصراع بين الدول حتى أن دولا إقليمية بدأت تستخدمها ضد بعضها البعض.
لكن حتى لو حدث التغيير المنشود، تخضع آلية رفع العقوبات وإلغاء الحجز على أموال الدولة العامة فى الخارج إلى تفاوضٍ يرمى إلى الذهاب أبعد بكثير من الهدف الأساس، أى «تغيير النظام»، كما حصل فى حال السودان لإرغامه على التطبيع مع إسرائيل.
إلا أن تلك العقوبات تُطلِق العنان لآليات اقتصادية مشوهة وعلى صعيد الاقتصاد السياسى ضمن البلد المعنى وفى علاقاته مع الخارج. هكذا تجنح الآليات المالية والتجارية كى تَخرُج من الأنظمة الرسمية نحو «التهريب» العابر للحدود وغالبا نحو النشاطات الإجرامية كالمخدرات، وما لا يستطيع أن يقوم به سوى الأجهزة المرتبطة بالسلطة، أو بالميليشيات المختلفة إذا ما دخل البلد فى حربٍ داخلية، كما الحال فى سوريا. وبالنتيجة تزداد إيرادات هذه الأجهزة والميليشيات المالية وتتعمق سيطرتها على البلاد، خاصة مقارنة مع حالة العوز الذى يعيش فيه المواطنون العاديون. وما يأخذ فى النهاية إلى عكس الهدف المُعلَن أصلا، ويصب فيما تئول إليه حُكمًا الحروب الأهلية.
هكذا تدفع العقوبات إذا إلى إثراء السلطة الحاكمة وأجهزتها وأمراء الحرب على جميع الأطراف، وإلى إضعاف وتهميش مؤسسات الدولة التى تفقد رويدا رويدا قدراتها البشرية، من جراء الهجرة أو «الفساد» الناتج عن انهيار الأجور، وتفقد القدرة على جلب إيرادات كى تقدِم خدمات أساسية للمواطنين ولو بالحد الأدنى. ما يُهدد أصلا بانهيار الدولة وانتشار الفوضى إلى ما لا نهاية.
•••
وعلى خلفية حتمية ذلك المسار، تنشط ذات الدول التى فرضت العقوبات فى تقديم المساعدات الإنسانية للشعب الذى دفعت إلى إفقاره وشرذمته. لكن تلك المساعدات تخلق بدورها آليات جديدة على صعيد الاقتصاد السياسى ضمن البلد المعنى، خاصة عبر استمرارها لسنوات عديدة على عكس ما تأتى به نتيجة كارثة آنية، مثل زلزالٍ أو تسونامى مدمِر.
ولتقديم المساعدات الإغاثية، تلجأ الدول الفارضة للعقوبات إلى مؤسسات الأمم المتحدة وإلى «منظمات غير حكومية» دولية (INGOs) وأخرى محلية. إلا أن تلك التابعة للأمم المتحدة لا تستطيع سوى التعامل مع سلطات الدولة المعنية (العضو فى الأمم المتحدة)، باستثناء ما يتم السماح به عبر قرارٍ محدد من مجلس الأمن. وهى وجميع المنظمات الدولية الأُخرى لا تعرِف السكان المحليين ولا شبكاتهم الاجتماعية، فتلجأ بالتالى إلى «منظمات غير حكومية» محلية (NGOs) للوصول إلى هؤلاء السكان، سواء الخاضعة منها حُكما لإرادة السلطة القائمة أو تلك التى تنشأ خصيصا لهذا الغرض فى المناطق الخارجة عن سيطرة تلك السلطة.
من هنا تنشأ «ريوع» المساعدات الإغاثية التى «تلتهِم» حصة كبيرة منها، سواء من خلال أجور موظفى المؤسسات الدولية والمحلية أو من آليات شراء المساعدات العينية ثم فى إيصالها وتوزيعها، قبل أن تصل إلى المستفيدين. وتظهر أعداد كبيرة من «المنظمات غير الحكومية» المحلية التى تعمل وفق أجندات وشروط الدول الممولة، مما يترافق مع بروز طبقة داخلية تستفيد من ريوع المساعدات.
ومع مرور الزمن، تحوِل آليات تلك المساعدات جزءا من المجتمع، خاصة أولئك الذين نزحوا عن مساكنهم الأصلية، إلى مجتمعٍ «تسول». وتضرُب إعادة تدوير المساعدات العينية فى أسواق الإنتاج المحلى. وفى المقابل تُثبِت مساعدات «التعافى المبكر» (أى مساعدة السكان للحصول على الخدمات وللإنتاج) النازحين فى مكان النزوح وتُبعِد إمكانية عودتهم إلى بلداتهم الأصلية. هذا عدا العلاقات الاجتماعية والاقتصادية المشوهة التى تنتج بين المقيمين ومجالسهم المحلية وبين النازحين فى المخيمات.
•••
وعلى العموم، تواجه آليات المساعدات إشكاليات كبرى فى طريقة التعامل مع قوى الأمر الواقع، إن كانت السلطة القائمة أم الميليشيات المتحكمة، خاصة أن بعضها يصنف عالميا «تنظيمات إرهابية»، سواء بصفتها قوى مسلحة أو عبر مؤسسات شبه الدولة التى تُنشئها. وفى النهاية، يُمكن أن تأخذ آليات المساعدات ذاتها إلى شرخٍ عميق فى الآليات الاقتصادية بين مناطق الهيمنة المختلفة وبالتالى إلى تقسيم البلد عمليا.
وغالبا لا تخضع آليات الريع المرتبطة بالمساعدات لأية رقابة، ولا حتى من قبل دافعى الضرائب فى الولايات المتحدة وأوروبا، خاصة تلك المقدمة من دولٍ مباشرة إلى منظمات محلية، وبحيث تُغطى مناظر البؤس التى تحيط بالنازحين وأولئك الذين تم دفعهم إلى الفقر الشديد على المطالبات بالرقابة. وأية رقابة... ضمن علاقات دولية معقدة؟ إذ لا تستطيع الأمم المتحدة حقا أن تفرِض رقابة على الدول التى أصلا تمولها أو توصل المساعدات عبرها!!!
ولا يعنى ذلك أبدا رفع المسئولية عن السلطة القائمة فى البلد المعنى. إنها حتما المسئولة الأولى فى أخذ بلادها إلى هذا الوضع. وهى فى الحقيقة، دفعت أصلا إلى نزوح وهجرة جزءٍ من السكان للتخلص من تحمُل عبء مسئوليات الدولة لتقديم الغذاء والدواء والخدمات لهم. لكنه يعنى أيضا أن الدول التى تفرض العقوبات تتحمل مسئولية أخلاقية وفعلية عن نتائج عقوباتها وحتى عن الآليات الريعية لمساعداتها الإنسانية.
ذلك كله يؤدى إلى الحرج والإرباك من اكتشاف أن العقوبات لم تؤدِ غرضها بل أذَت من افترضت إنقاذهم وعمقت الاستبداد. وها هى الولايات المتحدة مثلا تسمح بمساعدات «الانتعاش المبكر» فى سوريا، ما يذهب أبعد من «الإغاثة» لكن دون «إعادة الإعمار». وها هى مجمل الدول المانحة تقلِص بشكلٍ كبير دفعات المساعدات التى تعهدت بها.
وتكمُن المعضلة فى أن «الانتعاش المبكر» هو، حسب الأمم المتحدة، «عملية انتعاش متعددة الأبعاد تنطلق من التدابير الإغاثية الإنسانية، وتسترشد بمبادئ التنمية كى تبنى برامج مساعدات تحفز فرص التنمية المستدامة. وتهدف إلى توليد الاكتفاء الذاتى، بصيغة مملوكة وطنيا، بما يحضِر للتعافى بعد الأزمة (أى «إعادة الإعمار»). وتَشمَل إعادة الخدمات العامة الأساسية وسبل العيش والمأوى والحوكمة والأمن وسيادة القانون والبيئة والأبعاد الاجتماعية، بما فى ذلك إعادة إدماج السكان النازحين». وبشكلٍ خاص تكمُن المعضلة فى تضمن هذا التعريف لتعزيز قدرات مؤسسات الدولة المعنية، خاصة لجهة احترام حقوق المواطنين وتلبية احتياجاتهم، وفى مركزية قضية عودة النازحين واللاجئين.
لا يُمكِن التعامل مع هذه المعضلة إلا عبر التمييز بين السلطة والدولة، وعبر اعتبار الدولة كمؤسسة ملكٌ لجميع المواطنين، ودفعها إلى تحمل مسئولياتها عنهم جميعا وحول جميع القضايا المطروحة. وهذا يعنى أيضا وضع كل المؤسسات والآليات التى نشأت محليا بهدف خدمة المواطنين خلال سنين الصراع ضمن حوارٍ وطنى واسعٍ وشفاف. وحدهم «أمراء الحرب» وعلى جميع الأطراف لن يجدوا مكانهم فى مثل ذلك الحوار.