انقضى أسبوع حافل بالنشاط الدبلوماسى والتعليقات السياسية على عكس توقعات الأيام السابقة عليه التى مالت إلى الاعتقاد أو الأمل فى أن منطقة الشرق الأوسط، وعددا من بؤر التوتر فى العالم، مرشحة لفترة هدوء. سادت أجواء تنبئ عن اعتدال فى مواقف دول وتيارات وفى أمزجة الشعوب. فجأة تلبدت الأجواء بعودة الشرق الأوسط رافضا الهدوء ومتمسكا بدوره كمثير أول للشغب الدولى ومهدد دائم للسلام العالمى.
***
أعدمت المملكة السعودية رجل دين متهما بالإرهاب والتحريض، وخرجت فى إيران مظاهرات تحتج على الإعدام وتحرق مبانى دبلوماسية تعود للملكة السعودية. اشتعل مجددا التوتر بين الدولتين مضيفا ذريعة جديدة للفت أنظار شعوب العالم إلى أن الخطر المنبعث من الشرق الأوسط لم ينحسر بل ولا يؤذن بانحسار جذرى قريب. كان الظن أن حكومات المنطقة انهكتها ثورات الربيع وتشنجات من حاولوا منع وقوعها، إضافة إلى التوترات الاجتماعية وأزمات الاقتصاد وبطالة الشباب ومكافحة الإرهاب وحروب الوكالات فى شتى الأنحاء، وأنها وشعوبها لن تكون محبذة ولا راغبة فى توتر إضافى فى الإقليم.
توقعنا فور نشوب الأزمة الجديدة فى العلاقات السعودية الإيرانية ان تتحرك دبلوماسيتا الدولتين ودبلوماسيات دول أخرى لحصار الأزمة داخل سياق محدود وقصير، وعزلها قدر الإمكان عن مواقع توتر مشتعلة فعلا فى اليمن وسوريا والعراق أو مواقع توتر قابلة للاشتعال فى بلاد أخرى. بالفعل تحركت الدبلوماسيات فى اتجاهات شتى نحو هدف عدم التصعيد. تركز سعى الطرفين المباشرين بطبيعة الحال على حشد الأنصار التقليديين وكسب أنصار جدد، أما الأطراف الأخرى، فحاولت بدرجات متفاوتة تأكيد خشيتها من أن تصنفها السعودية أو إيران خصما، وخشيتها من أن تفلت الأمور من أيدى المسئولين فى الدولتين، فتنفتح أبواب جهنم لتلتهم ما يمكن ان يكون تبقى من عقل ورشد فى الإقليم.
***
كانت دعوة الجامعة العربية إلى الانعقاد خطوة منطقية تلجأ إليها كل دولة عربية احتاجت لدعم هذه المنظمة التى دأب الجميع على إهانتها وتحقيرها والتقليل من شأنها. ما أن تنشب أزمة أو تقع كارثة أو تنحشر دولة عربية فى ورطة سياسية إلا وكانت الجامعة التحرك الدبلوماسى الأول الذى يمهد لتحرك آخر فى منظمة التعاون الإسلامى أو الاتحاد الأفريقى، قبل الانتقال إلى مستوى المنظمة الدولية.
فى الجامعة حدث أيضا ما كان متوقعا. لم تخرج دولة عربية واحدة عن الاجماع. الكل اصطف وراء المملكة السعودية، العضو الذى لجأ إلى الجامعة مستغيثا، وهذا فى حد ذاته إجراء مستحب من جانب جميع الأعضاء لما يمثله كدفقة دماء فى جسد مثخن بجراح تسببت فيها طعنات الأعضاء. صدر بيان لم يقرأ أحد فيه ما يمكن أن يعترض عليه، حتى الدول التى حرصت على عدم إغلاق الباب أمام العلاقات القائمة مع إيران. كان واضحا أن الموقف الذى اتخذته الجامعة أثار ارتياح القوى الدولية التى كانت تخشى من أن تؤدى الأزمة فى العلاقات الإيرانية السعودية إلى فتح المناقشة من جديد حول مستقبل إيران النووى وهو الموضوع الذى تعتقد أنها انتهت منه ولا تريد العودة إليه. ارتاحت أيضا لأن موقف الجامعة خرج معتدلا إلى الدرجة التى تسمح بفتح الباب أمام المرحلة الثانية من مفاوضات الغرب مع إيران والمقرر لها أن تختص بدور إيران فى الشرق الأوسط بخاصة وآسيا عامة. يعلم قادة الغرب أن المملكة السعودية وإسرائيل اللتين فشلتا فى منع التوصل إلى الاتفاق النووى سيحاولان بكل الجهد الممكن التأثير فى مسيرة المفاوضات المقبلة بين إيران والغرب.
***
شهدت صالونات القاهرة أكثر من اجتماع ضم ثللا من المتخصصين المصريين فى العلاقات الدولية والإقليمية والسياسية الخارجية المصرية، اطلعت على خلاصات بعضها وشاركت فى اجتماع واحد على الأقل، الأمر الذى يسمح لى بأن أوجز هنا فى نقاط موجزة أهم اتجاهات الرأى المصرى المتخصص فى السياسة الدولية، علما بأنه فى كل هذه الاجتماعات لن يدع للمشاركة ممثل للدبلوماسية المصرية فى أى فرع من فروعها.
أولا.. لوحظ أن الرأى العام المصرى لم ينقسم حول الأزمة السعودية الإيرانية انقساما واضحا أو جوهريا. كانت هناك اختلافات حول ملابسات وأولويات، ولكن بشكل عام لم يكشف السلوك المصرى عن انفعال أو مواقف حادة. ومع ذلك كان هناك ما يشبه الاعتراض العام على طبيعة الأزمة برمتها وبدت الخشية واضحة من أن تحظى الخلافات المذهبية بموقع متقدم فى هذا النزاع. كان هناك أيضا التأكيد بحزم على أن الرأى العام المصرى لن يقبل بأن تكون مصر فى يوم من الأيام طرفا فى صراع مذهبى أو طائفى، والدليل على ذلك ظهر فى موقف الرأى العام من عبارات مذهبية تكررت أخيرا فى خطبة الجمعة وفتاوى بعض رجال الدين وكتابات بعض الإعلاميين، وبخاصة بعد أن ثبت أن أكثر هذه الكتابات كشفت سذاجة الكاتب أو جهله وعدم إلمامه بالتكوين الدينى والوطنى للذهن المصرى.
ثانيا.. تحركت الدبلوماسية المصرية بهدوء حذر وعلى مستويات متعددة منذ اليوم الأول، مؤكدة الاستنكار والاعتراض على المظاهرات ضد المؤسسات السعودية فى إيران ومؤكدة أيضا الرغبة المصرية الحقيقية فى ضرورة تحقيق تهدئة عامة فى الشرق الأوسط، ووقف التدخل الخارجى فى المناطق المتوترة وبخاصة فى سوريا ولبنان، والامتناع عن دعم القوى الدينية المتطرفة، والجاهزة للتطرف، بالمال أو السلاح أو الوعود. هنا لا يميز أهل الاختصاص فى حقل السياسة الخارجية المصرية بين أنشطة من دول من خارج الإقليم، مثل إيران وتركيا وأمريكا وروسيا ودول من داخله.
ثالثا.. يوجد اعتقاد أو ميل عام بأن المملكة السعودية لن تتعمد تصعيد النزاع مع إيران، واعتقاد، وربما ميل أيضا، بأن إيران هى الأخرى لن تسعى للتصعيد. سيقت حوافز عديدة ليس أقلها شأنا الحال المتفجرة فى الإقليم وتحديات التحديث الاقتصادى والاجتماعى فى كلا الدولتين، وضغوط العالم الخارجى، والتغييرات الجوهرية التى دخلت على أنماط السياسات الخارجية لمعظم دول الخليج، والتوقعات الكبرى التى تهيمن على العقل الرسمى الإيرانى منذ توقيع الاتفاق النووى مع المجتمع الدولى. هذه العوامل وغيرها تدفع الدولتين المتنازعتين للعمل على تفادى التصعيد المتعمد دون التنازل الفورى أو فى وقت قصير عن مطالب يعتبرها الطرفان حيوية.
رابعا.. قيل فى بعض المواقف لدول الخليج غير السعودية والبحرين، إنها عبرت بشكل دقيق وهادئ جدا عن رغبة هذه الدول فى «تحجيم» التدخل الخارجى فى شئونها، ولذلك هى تدعم بكل تأكيد بيانات الجامعة ومجلس التعاون حول الانتهاكات الإيرانية ولكنها تتمنى أن يتحقق لها هذا بدون التصعيد من جانب السعودية، وهو التصعيد الذى يضع دول الخليج الأخرى فى حرج شديد بالنسبة لإيران والمصالح التجارية والمالية لهذه الدول، وحاجتها المتزايدة إلى قواعد أمن متبادل تصنع توازنا قويا مناسبا فى الإقليم يحمى سيادتها واستقلالها كدول صغيرة وضعيفة بين عملاقين.
سمعت أيضا من يصف اختلاف بعض الملامح والإيماءات فى مواقف الدول الخليجية غير السعودية والبحرين خلال الأيام الماضية بأنه نوع محمود من سياسات توزيع الأدوار بين دول متفاهمة ومتعاونة.
خامسا.. فى هذا الإطار، سمعت للمرة الأولى فى عقود عديدة من يدعو الدبلوماسية المصرية إلى تبنى الاقتراح بأن تسير مصر على نهج دولة عمان فى صنع وتنفيذ سياسة خارجية بمذاق مختلف ونجاعة ملحوظة. سمعت الاقتراح يصدر من خبراء انتقدوا ذات يوم أو أكثر موقف دولة عمان من قرارات الجامعة العربية الصادرة فى حق مصر عند توقيع اتفاق الصلح مع إسرائيل، وموقفها من أحداث سوريا والتدخل الخليجى فى شئونها، ودورها المشهود فى تقريب وجهات النظر الإيرانية والأمريكية فى المفاوضات النووية.
الاقتراح مطروح بقوة، والمعارضة له مطروحة أيضا بقوة، على أساس أن للسياسة العمانية تاريخا متصلا ومتناسقا ونابعا من طبيعة خاصة للحكم فى عمان والموقع والعلاقة مع الدول الكبرى، أمور جميعها لا ولن تتوافر لمصر. إلا أن هذه المعارضة للاقتراح لا تعترض على جوهر الاقتراح، وهو أن تكون للسياسة المصرية خصوصية تستمدها من عناصر قوة غير ملموسة وتاريخ ملموس ومؤسسات حكم أغلبها يرفض الاصطفاف الاستراتيجى فى هياكل إقليمية أو دولية تعتمد على أفكار أو مبادئ من خارج السياق القومى الذى عاشت فيه السياسة الخارجية المصرية عقودا عديدة، وفشلت جميع محاولات إخراجها منه.
***
الاصطفاف قائم ولكن بصفة مؤقتة وبشروط وبحرص. كثيرون فى مصر وخارجها يعرفون عن تجربة طويلة ومريرة أن بعض الاصطفافات العربية كانت نتائجها كارثية.