فى ضوء تغيير الولايات المتحدة استراتيجيتها تجاه أوكرانيا، نشر موقع 180 مقالا للكاتب سليمان مراد، يقول فيه إن العداء بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى ليس وليد وصول ترامب للسلطة، وإنما كان ضمن سياسات أسلافه بايدن وأوباما، الفرق فقط هو اختلاف الوسائل والأساليب، ففى النهاية تنظر واشنطن للاتحاد الأوروبى كمنافس محتمل للهيمنة الأمريكية.. نعرض من المقال ما يلى:
نُخطئ إذا أصررنا على القول بوجود فرق جوهرى بين سياسة دونالد ترامب وأهدافه وبين تلك التى تبناها وسعى إليها من سبقوه من رؤساء، وبالأخصّ منهم باراك أوباما أو جو بايدن. الفرق هو فى الأساليب والوسائل التى يتبعها ترامب لتحقيق أهداف تسعى إليها أمريكا.
التنافس المحموم بين أوروبا وأمريكا ليس جديدا. عُمرهُ من عمر إنشاء الولايات المتحدة، لكن عالم ما بعد الثورة البلشفية (1917) جعل الأمريكيين والأوروبيين (الغربيين أولا والشرقيين بعد انهيار الاتحاد السوفيتى) يتجاوزون خلافاتهم أو يضعونها قيد السيطرة. التغييرات التى حصلت فى ربع القرن الأخير والتى تعكس تحولات جوهرية فى السياسة العالمية أعادت ذلك العداء إلى العلن.
ليس خافيًا أن ما يجمع الدول الأوروبية بأمريكا هو أعمق من تبادل تجارى ومعاهدات دفاع مشترك وبعض المصالح من هنا أو من هناك. مقابل ذلك، ثمة كره متبادل متأصل فى عقلية المجتمعين الأوروبى والأمريكى لا يجب الاستهانة به (الأمر نفسه ينطبق على العلاقات بين الدول الأوروبية نفسها). هذا المناخ أفضى فى الكثير من الأحيان إلى تقاتل وخصومات دموية (لا يجب أن ننسى أن الحرب العالمية الأولى كانت حربا أوروبية بامتياز، وأيضا وبدرجة كبيرة الحرب العالمية الثانية).
أقول ذلك لأن كثيرين، فى غياب القراءة السليمة للتاريخ، يعتقدون أنه يمكن فهم مستقبل علاقة أمريكا بأوروبا وفقا لتجربة العقود الماضية. هنا، أستحضر المثل العربى المعروف: «أعداء الأمس.. أصدقاء اليوم». ويمكن أن نستنسخ منه: «أصدقاء اليوم.. أعداء الغد».
مشكلة ترامب وأمريكا عامة ليست مع أوروبا كمجموعة دول متفرقة. المشكلة هى مع الاتحاد الأوروبى كمنافس محتمل للهيمنة الأمريكية. الشىء نفسه ينطبق على أى دولة أوروبية يمكن أن تُطور اقتصادها وقوتها العسكرية لتصبح منافسة جدية لأمريكا). لذلك، ما تقوم به الولايات المتحدة الآن هو محاولة يائسة لتدمير الاتحاد الأوروبى، وإعادة أوروبا إلى زمن ما قبل الوحدة طالما أن ذلك يفيد الاستراتيجية الأمريكية، حسب صُناع القرار فى واشنطن.
•••
كيف لأمريكا أن تنجح فى مخططها هذا؟ الجواب بسيط: أدخلت أمريكا جارتها أوروبا فى حرب مع روسيا ستقود إلى إفلاس الدول الأوروبية تمهيدا لإفلاس الاتحاد الأوروبى. الحرب مع روسيا ليست فقط معارك عسكرية، بل حرب اقتصادية بكل معنى الكلمة. العقوبات الأوروبية على روسيا تُضر بالدول الأوروبية أكثر مما تضر بروسيا نفسها، خصوصا فى موضوع الغاز الروسى الذى كان يؤمن الدفء للشعوب الأوروبية ويشغل مصانعهم بأسعار رخيصة، وهم الآن يدفعون أضعاف ذلك لأنهم باتوا مجبرين على استيراد معظم حاجاتهم من الغاز من أمريكا. وبتدمير الاتحاد الأوروبى تصبح الدول الأوروبية محكومة بالخضوع للجانب الأمريكى!
أُكرر؛ مشكلة أمريكا ليست مع دول أوروبا بالمفرق، بل مع تعاظم قوة ونفوذ الاتحاد الأوروبى، ومن الطبيعى أن تحلم الدول الأوروبية بجعل اتحادهم قطبا سياسيا واقتصاديا يجلس فى مقاعد «الكبار» ممن يريدون إحكام سيطرتهم على العالم.
• • •
من جهة، يتبدى لنا أن خوف أمريكا من الاتحاد الأوروبى مرتبط بصراعها المرشح للاحتدام مع الصين. فكما أن دول أوروبا العظمى (فرنسا وبريطانيا وألمانيا تحديدا) خاضت حربين عالميتين كإمبراطوريات يخشاها العالم، وخرجت منها ممزقة، مفلسة، وبحاجة للحماية (وهو ما فتح لأمريكا فرصة التربع على عرش الغرب بلا منازع)، يمكن للأمر نفسه أن يتكرر فى صراع أمريكا مع الصين، فيقودها إلى وضع مماثل تنعكس فيه الأدوار، فتصبح أمريكا بحاجة إلى أوروبا لتحميها!
هنا، علينا العودة إلى حملة انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبى (البريكست). لم يكن البريكست حدثا بريئا، خصوصا أن الطبقة السياسية الوازنة فى بريطانيا اقتنعت أن أمريكا ستكون ضمانة اقتصادية وسياسية بديلة عن ضمانة وحدة أوروبا. هم الآن يكتشفون أن ذلك كان مجرد سراب خادع، وأن تشجيع أمريكا للبريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبى كان هدفه دق المسمار الأول فى نعش الوحدة الأوروبية. ومع التكاليف الباهظة لحرب أوروبا ضد روسيا فى أوكرانيا، وتلك التى ستتكلفها الدول الأوروبية من أجل إعادة تسليح نفسها مستقبلا، سيجد الاتحاد الأوروبى صناديقه المالية وقد تبخرت.. ولات ساعة مندم!
هنا أيضا علينا أن نبحث فى سبب تغيير أمريكا استراتيجيتها حيال أوكرانيا وصولا إلى مغازلة روسيا. هل لأن دور أوكرانيا انتهى فى إضعاف الروس والاتحاد الأوروبى معا، وهل حان وقت الدخول فى المرحلة التالية؟ وهل لذلك علاقة بالصراع مع الصين؟ وهل هى محاولة لإبعاد روسيا عن الصين، ولماذا؟
العامل الأبرز الذى يمكن أن يؤذى الصين فى هذه المرحلة هو الطاقة. لا يُمكن إخضاع الصين إلا من خلاله.. والوقت ليس فى مصلحة أمريكا، لأن الصين واعية لهذا الضعف وتسعى للتقليل من تداعياته (أقلّه فى المديين المتوسّط والبعيد).
من سيؤمّن للصين مصادر طاقوية فى المدى المنظور؟ الجواب: روسيا. ففى أغلبية القطاعات يُمكن للصين أن تنغلق على نفسها وتعتمد على اقتصادها ومواردها، ولكن لا يسرى ذلك على الطاقة.
ولو قارنا مع دول أخرى لوجدنا أن الطاقة لعبت دورا جوهريا فى إخضاع ألمانيا النازية وهزيمتها، ذلك أن عدم قدرتها على توفير مصادر كافية من الطاقة أجبرها على التقنين فى المصانع وحتى فى حركة آلتها الحربية، وخصوصا مصانع إنتاج الطائرات للدفاع عن أجواء ألمانيا، فسيطر الطيران الأمريكى على سماء ألمانيا وأمطر مدنها ومصانعها تدميرا وحرقا. أنا لا أقول أن هدف أمريكا ضرب الصين بطائرات الإف 16 والإف 35. لكن يمكنها أن تُخضع الصين لحصار يحرمها من الموارد الطاقوية، ولا يمكن لهكذا حصار أن ينجح إذا لم تتوقف روسيا عن توريد غازها للصين.
ولا يجب أن ننسى أن السياسة، قبل كل شىء، وبعد كل شىء، ليست أخلاقا ومبادئ. السياسة هى وسيلة تبيح كل شىء من أجل الوصول إلى المبتغى.
• • •
فى الخلاصة، ما يحدث ليس مجرد صدفة أو حالة انفعال أو ردّة فعل. ما يحصل هو تغيير فى قواعد اللعبة تفترض أمريكا أنه سيجعل النتيجة لصالحها: نهاية الاتحاد الأوروبى وإعادة دوله إلى كنف أمريكا من دون قدرة على المناورة أو المناكفة أو حتى الاحتجاج!
هذا من دون شك نوع من «لعب القمار» ومغامرة لا تُحمد عقباها. ومن المحتمل أن تؤدى إلى خسارة أمريكا لـ«حلفاء» و«أصدقاء» تطلّبت استمالتهم عقودا طويلة من الجهد والرشوة والخداع والتهديد. لكن «العمّ سام» كان وما يزال مولعا بلعبة «البوكر» والجائزة الكبرى (الصين) يسيل لها لعابه.. وتستحق مجازفة بكامل رصيده.
لنشدّ الأحزمة فما سنشاهده قريبا سيُفاجئنا ويرعبنا المسلسل الأمريكى الطويل لا بل ربما طويل جدا.
النص الأصلى:
https://bitly.cx/2D83u