إعادة الاعتبار لمصرنا القديمة - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 26 أكتوبر 2025 11:55 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

إعادة الاعتبار لمصرنا القديمة

نشر فى : السبت 25 أكتوبر 2025 - 7:15 م | آخر تحديث : السبت 25 أكتوبر 2025 - 7:18 م

 (1)
من بين النواتج المحمودة لحالة الترقب المتفائل والمنتظر لافتتاح المتحف المصرى الكبير، تلك الحالة النشطة المحمودة أيضًا من البحث والسؤال والتنقيب عن مصرنا القديمة، وما يتصل بها من تاريخ وآثار ومعرفة علمية مؤسَّسة على أحدث ما توصلت إليه طرق التنقيب والبحث والكشف، ومن ثم إعادة الاعتبار لهذه الحضارة العظيمة، وإلى احترامها، والتعامل معها بوعى وعلم وتقدير، وإزالة الغبار المتراكم عبر عقود سابقة شوهت وجه هذه الحضارة وطمست كثيرًا من المعرفة الدقيقة بها تحت وطأة موجات التطرف المقيت والتعصب الجاهل التى انكوينا بنارها منذ السبعينيات وحتى وقتنا هذا.
وقد أشرتُ فى مقال الأسبوع الماضى إلى بعضٍ من هذه الدلالات الرائعة لحدث افتتاح المتحف المصرى الكبير الذى يشكّل، مع حدثين كبيرين سابقين (موكب المومياوات الملكية وطريق الكباش الأثرى)، تدشينًا لمرحلة جديدة ورائعة فى تعامل الإدارة المصرية، من أعلى مستوياتها (رئاسة الجمهورية) وصولًا إلى المواطن المصرى العادى، ببعث روح الاعتزاز بهذه الحضارة والفخر بهذا الانتماء، والسعى إلى ترسيخ حضورها وتفاصيلها فى وجدان أبنائنا وبناتنا من الأجيال الجديدة، ووصلهم مرة أخرى بجذورهم البعيدة وتاريخهم الأصيل، والاعتداد والاعتزاز بهذا التاريخ.
وما زلت أرى أن هذه الأحداث الثلاثة الكبيرة (خلال الفترة من 2022 إلى 2025) قد دشّنت مرحلة جديدة أُعيد فيها الاعتبار والتوقير لمصر القديمة وحضارتها، وجعلت الكثيرين من المصريين يصلون ما انقطع بينهم وبين عظمة هذه الحضارة ومكانتها بين الأمم والشعوب.


(2)
فى حواراته التوثيقية التى حفظها لنا الأستاذ محمد سلماوى، أشار كاتبنا الراحل الكبير نجيب محفوظ إلى تلك اللحظة التى اكتشف فيها عظمة الأجداد والآباء فى هذه الحضارة؛ يقول فى حواراته التى سجّلها معه الأستاذ محمد سلماوى:
كلما علمتُ باكتشاف جديد لآثار قديمة فى أرض مصر عجبت لتاريخ هذا البلد الغنى، الذى كان طوال تاريخه ملتقى لحضارات العالم أجمع، من الفارسية والرومانية واليونانية فى العصور القديمة إلى مختلف الحضارات الغربية فى العصر الحديث. ولقد كان للاكتشاف الأول الكبير فى أوائل القرن العشرين تأثير كبير علىّ كأديب، وهو اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون عام 1922 على يد البريطانى هوارد كارتر؛ ففى ذلك الوقت انبهر العالم كله بما تم إخراجه من هذه المقبرة النادرة، التى لم تكن أيدى لصوص المقابر فى العصور الغابرة قد وصلت إليها. ورغم أن صاحبها الفرعون الصغير لم يكن من حكام مصر العظام، ولم يستمر حكمه أكثر من تسع سنوات، فإن النفائس التى كانت تزخر بها مقبرته أعطت للعالم فكرة عمّا كان بداخل مقابر الفراعين الكبار مثل رمسيس الثانى، وأحمس، وخوفو، وأخناتون الذى خَلَفه مباشرة فى الحكم توت عنخ آمون.


لقد كان لهذا الاكتشاف أثر عميق وبارز فى حياة نجيب محفوظ كأديب، لأنه كان الدفعة الأولى التى ولّدت بداخله الدافع للكتابة، وحددت له الاتجاه الذى اتخذه بالفعل فى كتاباته الروائية الأولى (1939-1944). يقول محفوظ: «إننى وجدت فى ذلك التاريخ كنزًا زاخرًا بالقصص والمواقف، فقررت أن أهب حياتى لكتابة تاريخ مصر القديم بالرواية، وهكذا نشرت بالفعل ثلاث روايات مستوحاة كلها من هذا التاريخ القديم». لكنى بعد فترة وجدت أن ثراء التاريخ المصرى ليس فى القديم وحده، وإنما أيضًا فى التاريخ الحديث الذى بهرنى بالقدر نفسه، فاتجهت إليه برواياتى، دون أن أترك التاريخ القديم؛ فقد عدت إليه مرة أخرى لأكتب رواية «العائش فى الحقيقة» عن فرعون مصر الأكبر أخناتون.


(3)
بالتأكيد، فإن احتفالية موكب المومياوات الملكية، وافتتاح طريق الكباش بالأقصر، والآن ونحن ننتظر حدث افتتاح المتحف المصرى الكبير، تمثل هذه الأحداث الكبرى تحولًا جذريًا ومحمودًا فى سياسة الدولة الرسمية تجاه تكريس الاهتمام بالآثار المصرية القديمة؛ والعناية بها وبعرضها وإتاحتها وفق أحدث طرق العرض المتحفى العالمى، بعد عقود من الإهمال والتناسى وترك المجال للفكر الدينى المتطرف فى تشويه وإنكار كل حضور أو أثر سابق على دخول الإسلام إلى مصر.
إن دلالات هذه الأحداث الثلاثة تتجاوز بكثير فكرة الاحتفال والاحتفاء (أو حتى الاستعراض كما يروّج البعض)، فالسذج والجاهلون والمتعمدون الإساءة والتسطيح هم فقط من يقفون عند حدّ الاحتفاليتين اللتين نجحتا نجاحًا باهرًا فاق كل التوقعات، نجاحًا مبهرا تحدث به الناس والدنيا كلها حتى اللحظة، وبالتالى رفع أفق التوقع عاليًا وسقفه إلى مدى بعيد جدًا فيما يخص الاحتفال المرتقب بافتتاح المتحف المصرى الكبير.
إن لهذه الأحداث المتصلة بإعادة الاعتبار إلى مصر القديمة وحضارتها ومكانتها والاعتناء بآثارها دلالات عديدة متراكبة وقوية وعميقة، وتمس فى أحد مستوياتها أول مواجهة هوياتية حضارية حقيقية ناعمة بين تكوين مصر، وحضارة مصر، وهوية مصر الأصيلة الغنية المتنوعة، وبين الوجه الأسود الكابى الجاهل، الذى نفث صفرة وسمومًا وجاهلية وعنفًا وتعصبًا مقيتًا طيلة نصف القرن الماضى.