التشغيل فى سردية التنمية - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
السبت 25 أكتوبر 2025 11:50 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

التشغيل فى سردية التنمية

نشر فى : السبت 25 أكتوبر 2025 - 7:10 م | آخر تحديث : السبت 25 أكتوبر 2025 - 7:10 م

التشغيل هو الموضوع الذى يشغل الفصل الرابع من «السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية» الصادرة عن وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولى فى شهر سبتمبر الماضى. العوامل التى من شأنها أن تنهض بالتشغيل موجودة فى الفصل، وهو ما يحمد له. التعليم، والتعليم الفنى، والتوجيه والتدريب المهنيان، وخدمات التشغيل، والسياسات النشطة لسوق العمل، والابتكار، وإنشاء المشروعات الصغيرة موجودة فيه. باستثناء المشروعات الصغيرة التى يختلط فيها عرض العمل بالطلب عليه، فإن الفصل يركز على عرض العمل لرفع مستوى كفاءته وبالتالى إنتاجيته.
تصيب السردية كذلك، إذ لا تكتفى بعرض العمل، بل تتطرق إلى رفع مستوى الطلب عليه فى فصلها الثالث المعنون «التنمية الصناعية والتجارة الخارجية». هذا الفصل ينوه بربط أهداف التشغيل بالاستثمار الأجنبى المباشر والتنمية الصناعية والتجارة، كما يشدد على أن قطاع السياحة محرك رئيسى للتشغيل، وهو فى تناوله لقطاع الاتصالات لا يغفل عن الإشارة إلى المشتغلين فيه.
التشغيل ليس مسألة عرض فقط ورفع مستوى القوى العاملة، بل هو أولا مسألة طلب على العمل. إن لم يوجد طلب فعال، فلن تُخصص الموارد الضرورية للتعليم والتدريب والبحث العلمى وسياسات سوق العمل، وهى ضرورية لرفع مستوى عنصر العمل.
الفصل الرابع عنى بالربط بين العمل، أو انعدامه، والفقر متعدد الأبعاد، وتناول بشكل متكرر عمل المرأة وتوفيقها بين مسئولياتها فيه ومسئولياتها العائلية. وحسنا فعل الفصل الرابع بتكرار أن فرص العمل التى تتطلع «السردية» إلى إنشائها هى فرص للعمل اللائق الذى تصفه بكثير من الصفات التى حددتها له منظمة العمل الدولية.
الفصل الرابع بعنوان «كفاءة ومرونة سوق العمل». ليت السردية أطلقت عليه مجرد «التشغيل». كفاءة سوق العمل ومرونته أداتان من أجل تحقيق الهدف، ألا وهو التشغيل. وليتها أيضا جمعت فى نفس الفصل الإجراءات الضرورية لرفع كفاءة عنصر العمل وإنتاجيته، مع الإجراءات اللازمة لرفع مستوى الطلب عليه ولتحسين شروط العمل وظروفه حتى يصبح عملا لائقا.
التشغيل قلب النشاط الاقتصادى. هو السبيل إلى الإنتاج وكذلك إلى توزيع العائد من هذا الإنتاج ليلبى الناس احتياجاتهم، وبذلك ينشطون الطلب على السلع والخدمات.


• • •
بعد هذه المقدمة، فى حدود المساحة المتاحة لهذا المقال، ننتقل إلى عدد من الملحوظات عن بعض ما غاب عن السردية، لعلها تدركه فى صورتها النهائية. الفصل الرابع، متسقا مع عنوانه، يشدد على ضرورة إضفاء المرونة على سوق العمل. كان مفيدا أن يفسر الفصل ما يقصده بالمرونة. هل المرونة المقصودة هى تطويع حجم قوة العمل فى المنشآت مع اتجاه الدورة الاقتصادية، أو مع الطلب على السلع والخدمات صعودا وهبوطا؟ المرونة فى هذه الحالة تعنى التساهل فى تسريح قوة العمل فى المنشأة، مع ما يعنيه ذلك من انعدام الأمان الوظيفى، وهو ما ينعكس بدوره على تلبية الاحتياجات المعيشية للعمال وأسرهم، ويهدد بذلك الاستقرار الاجتماعى. أم أن المرونة المقصودة هى تطويع قوة العمل للطلب المتغير عليها نتيجة للتطور التكنولوجى المتسارع فى عصرنا الحالى، وللتنوع فى الأذواق، ولتعدد طلب الأسواق الخارجية على السلع والخدمات، ولضرورات الانخراط فى سلاسل القيمة الإقليمية والعالمية؟
مسألة ثانية كان يجدر بالفصل الثالث الخوض فيها هى أسباب المشكلات التى يواجهها التشغيل فى مصر. الفصل يأسف لانخفاض معدل مشاركة المرأة فى النشاط الاقتصادى إلى 18% فى سنة 2023 بعدما كان 23% فى سنة 2012 و27% فى سنة 2006. توجد مجهودات لتفسير هذا الانخفاض، منها الكف عن الاستخدام فى الحكومة، ومنها شروط فرص العمل المتاحة للنساء وظروفها. تفسير الانخفاض ضرورى لعلاجه، وإن لم يكن هذا العلاج بالعودة إلى ما كان من قبل. علاج انخفاض مشاركة المرأة ضرورى تماما لتمكينها من حقها فى العمل، خاصة وأن قرابة ربع الأسر المصرية تعولها نساء.
الفصل الرابع اهتم بمعدل البطالة الذى استهدف أن ينخفض إلى 6.5% فى سنة 2026-2027، وهو حرص على ذكر معدلات التشغيل المستهدفة إقليميا، كما اهتم بمعدل المشاركة فى النشاط الاقتصادى، وكان عنيا كذلك بالعمل فى القطاع غير المنظم، الذى أسماه بغير الرسمى، واعتبر هذه مؤشرات مهمة على أداء سوق العمل، وهى كذلك بالفعل.
ملحوظة أولى فى هذا الصدد هى أن معدل البطالة فى مسح سوق العمل التتبعى لسنة 2023 كان 6.3%، أى أنه كان أدنى من المستهدف، إلا أن هذا المستهدف ربما كان يقيس معدل البطالة فى نفس السنة كما ورد فى مسح قوة العمل بالعينة وكان 7.1%. فى هذه الحالة الأخيرة، الانخفاض المستهدف متواضع على أى حال.
إلا أن الملحوظة الأكثر أهمية هى أن الفصل الرابع من «السردية» أغفل تماما مفهوم التشغيل المنقوص، والمؤشر عليه حيوى للخروج بصورة حقيقية لسوق العمل وصحته. معدل البطالة يدلّ على الراغبين فى العمل والقادرين عليه والباحثين عنه ولا يجدونه. إن عمل الباحث عن العمل لساعة واحدة أثناء الفترة المرجعية، وهى أسبوع فى مصر، فهو يعتبر مشتغلا ويخرج من عداد العاطلين عن العمل الذين يعبر عنهم معدل البطالة. من يعمل ساعة أو خمس ساعات أو عشر ويكون راغبا فى العمل لأكثر من هذه الساعات، تشغيله منقوص لا يكفيه دخله عنه لتلبية احتياجاته واحتياجات أسرته. التشغيل المنقوص هو عجز فى الطلب على العمل، وبغيره لا تكتمل الصورة عن حالة سوق العمل. هذا هو التشغيل المنقوص المنسوب إلى وقت العمل، وهو هدر لقوة العمل، مثله مثل البطالة.
شكل آخر من الهدر هو ما يسمى بالتشغيل غير الملائم، وهو الانخراط فى وظيفة أو فرصة عمل تتطلب مستوى من التعليم أو المؤهلات أدنى من ذلك الذى حصل عليه شاغلها. سوق العمل المصرية فيها الكثير من ذلك بسبب انخفاض المستوى المعرفى للنشاط الاقتصادى فيها. معدل البطالة وحده لا يكفى للتعبير عن حالة سوق العمل، وإن زدت عليه معدلى المشاركة فى النشاط الاقتصادى والتشغيل. أما الإشارة إلى التشغيل غير المنظم فليس كافيا طالما كانت كمية أوجه عدم تنظيمه غائبة.


• • •
بعض الملحوظات الإضافية أولها الاقتراح أعلاه بأن يضم إلى الفصل الرابع عن عرض العمل الأقسام الخاصة بالطلب على العمل الواردة فى الفصل الثالث مع التفصيل فيها، خاصة تحفيز القطاع الخاص على إنشاء فرص العمل، أى رفع مستوى طلبه على العمل، وتحسين شروط هذا العمل وظروفه، وربط هذا الطلب بسياسة تعليم وتدريب وتأهيل عنصر العمل المطلوب. هذا يؤدى بنا إلى مفهوم غائب عن «السردية»، وهو مفهوم «السياسة الصناعية»، وهو غير مفهوم التصنيع أو التنمية الصناعية. تناولنا مفهوم «السياسة الصناعية» على هذه المساحة من «الشروق» الغراء فى سبتمبر 2022 فى مقال بعنوان «سياسات صناعية لمصر». بدون الدخول فى التفاصيل، السياسة الصناعية هى مجموعة من الإجراءات على مستوى العرض والطلب فى فرع أو عدة أفرع من النشاط الاقتصادى، سواء من الصناعة التحويلية أو الخدمات أو الزراعة. إجراءات سياسة التشغيل هى جزء من هذه الإجراءات تستفيد بالإجراءات الأخرى المتخذة وتفيدها.
ملحوظة ثانية هى بشأن التركيز على الأنشطة كثيفة اليد العاملة الذى يدعو إليه الفصل الثالث. الأنشطة كثيفة اليد العاملة منخفضة الإنتاجية، وبالتالى هى منخفضة العائد على العمل ولا تسهم فى تحقيق معدلات نمو مرتفعة، فى وقت يحتاج هذا النمو لرفع مستويات المعيشة ومكافحة الفقر. المطلوب هو سياسة للتشغيل تمزج بين الأنشطة كثيفة اليد العاملة وكثيفة المعرفة ورأس المال، تصحبها سياسة لإعادة التوزيع.
ملحوظة أخرى هى عن مفهوم «السردية» وتبعاته. السردية هى رواية ترتبط أحداثها ببعضها البعض بإحكام. طول الرواية يضعف هذا الإحكام. الأمثلة على التطور فى أسواق العمل الدولية والإجراءات المتخذة فى هذا البلد أو ذاك، المستقاة من التقارير الدولية، يمكن نقلها إلى مرفقات «بالسردية»، وبذلك يختصر الفصل الرابع ثم تحكم العلاقة بين مكوناته لتخرج روايته سلسة متجانسة، وإن استدعت سلاسة الرواية مزيدا من الاختصار. الاختصار والإحكام بشأن الفصل الرابع ينطبقان على ما عداه من فصول. فى شكلها الحالى، «السردية» فيما يقرب من 640 صفحة. الاختصار والتركيز سيفيدانها كثيرا، وكذلك المراجعة اللغوية.
أخيرا، أثار الدكتور مصطفى كامل السيد على هذه الصفحة منذ أيام مسألة مفهوم التنمية الذى أصبح شاملا للجوانب الاجتماعية والثقافية والسياسية إضافة إلى الاقتصادية، بحيث أن التنمية لم تعد توصف بالاقتصادية فقط. فى «السردية» فى نفس شكلها الحالى إشارات إلى حوكمة سوق العمل والإطار المؤسسى للحوار الاجتماعى بين منظمات أصحاب العمل والعمال فى وجود ممثلى الحكومة. هذه الحوكمة وهذا الحوار ذو طبيعة اجتماعية إن لم ترد اعتبارها سياسية. إن تجاوزنا عن ذلك، ربما أمكن اعتبار أننا بصدد «السردية الاقتصادية للتنمية فى مصر».


أستاذ الأبحاث بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

إبراهيم عوض أستاذ الأبحاث بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات