من الصندوق إلى الاستبداد.. التجربة التركية - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:46 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من الصندوق إلى الاستبداد.. التجربة التركية

نشر فى : الخميس 13 يونيو 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 13 يونيو 2013 - 8:00 ص

أبدأ من «الآخر». لقد اهتزت مكانة السيد أردوجان والاحتمال كبير أن يحتاج حزب العدالة والتنمية إلى وقت غير قصير ليستعيد للمكانة المهتزة استقرارها ويمحو التشوه الذى لحق بصورة تركيا فى الخارج.

●●●

ما حدث لصورة تركيا كان من الممكن تفاديه لو أن احتجاجات ميدان «تقسيم» تواصلت على نحو معتدل والتزمت هدفها الأصلى وهو وقف اقتلاع الأشجار، أو لو كانت الحشود أقل غضبا، أو كان رد فعل السلطة مع المتظاهرين أقل عنفا. ما كان يحدث لمكانة تركيا وصورتها ما حدث لو لم يكن لتطورات الموقف فى اسطنبول وأزمير وأنقرة وغيرها من مدن تركيا وقع المفاجأة فى الداخل كما فى الخارج. لم يكن متوقعا أن تتكرر فى ميادين تركيا وشوارعها مشاهد جرت قبل عامين فى غادة الحبيب بورقيبة وميدان التحرير وساحة الشهداء فى اليمن.

 

لم تكن تطورات تركيا متوقعة لاختلاف الظروف فى الحالة التركية عن الظروف فى الحالات العربية. أولا: جرت فى تركيا ثلاثة انتخابات نيابية نظيفة، لم تجر مثلها فى أى من الدول العربية.

 

ثانيا: قدمت تركيا خلال العقدين الأخيرين نموذجا نادرا فى الأداء الاقتصادى المتميز فى إقليم لم تحظ دولة عربية أو آسيوية فيه، باستثناء ماليزيا، على تقدير مماثل. ثالثا: تجاوزت تركيا، كدولة إسلامية وشرق أوسطية، كل الأعراف السائدة فى الإقليم حين نجحت فى إخراج المؤسسة العسكرية من حلبة السياسة، بعد قرون من هيمنة التقاليد والقواعد والامتيازات العسكرية.

 

هكذا استطاعت تركيا أن تطرح نفسها أمام أمريكا كقصة نجاح لليبرالية الاقتصادية فى زمن عز فيه هذا النجاح وسادت أجواء الفشل والأزمات فى معظم الاقتصادات الغربية.

 

كذلك طرحت نفسها أمام أوروبا نموذجا لائتلاف الديمقراطية والإسلام فى نظام يرتدى رداء «العلمانية» بمفهومها الأوروبى وينفذ تعاليم منتقاة من العقيدة الإسلامية بمفهوم العثمانية الجديدة. استطاعت فى الوقت نفسه أن تطرح نفسها أمام شعوب العالم العربى نموذجا لنظام إسلامى أقرب إليهم من تجارب ماليزيا وإندونيسيا وإيران، ونموذجا لدولة شرق أوسطية تمكنت من أن تخاطب إسرائيل بلهجة مختلفة شيئا ما، وأن يكون لها رأى مختلف عن رأى أمريكا فى مسائل حيوية مثل قبرص والعراق.

 

ومع ذلك لم يتوحد العرب على رأى فى النموذج الإسلامى التركى. اختلفوا بين من اعتقد بسعادة بالغة وبين من اعتقد بتعاسة أيضا بالغة أن هذا النموذج يؤذن بعودة الخلافة العثمانية فى شكل جديد، واختلفوا بين من تصوره حليفا محتملا عندما تحين ساعة إعلان حرب الطوائف العظمى فى الشرق الأوسط وبين من تصوره خصما شديد البأس عندما تحين ساعة الجهاد ضد «الكفار». أطراف أخرى راح خيالها الجامح يصور لها أردوجان ممتطيا حصانا يطير به من أنقرة إلى القدس ليدخلها فاتحا.

 

●●●

لم نكن غافلين عن أحوال تركيا عندما سمحنا بأن يسود بيننا الاقتناع بأن الأتراك يعيشون حالة رضا فى ظل حكم الحزب الإسلامى. فقد وقع أكثر من تطور كان أحدها كافيا، لو وقع فى دولة أخرى، فى أن يتسبب فى نشوب احتجاجات صارخة. حدث مثلا أن أسقط السوريون طائرة عسكرية تركية ولم يتحرك الأتراك، ووقعت مذبحة فى قرية الريحانية على حدود تركيا الجنوبية ولم يتحرك الأتراك. تعددت الإجراءات التى تقيد حريات فئات بعينها أو أسلوب حياة فئات أخرى، كلها كانت فى اتجاه مجتمع يجب أن يكون متزمتا، ولم يحتج الأتراك.

 

حدث أيضا أن تعرض سفير تركيا فى إسرائيل لإهانة متعمدة. أذكر أننى حين شاهدته فى وضعه المهين فى الخارجية الإسرائيلية تصورت أن الأتراك، كشعب عنيد يعتز بكرامته ووطنيته، لن يسكتوا. ولكن سكتوا وسكنوا ولم يتحركوا. وعندما تدخل الجيش فى مناطق شرق تركيا وسقط المئات من الضحايا بسبب غارات جوية لم يتحرك بقية الأتراك دفاعا عن مواطنيهم من المدنيين الأكراد.

 

صور عديدة من هذا القبيل كانت توحى بأن الرضا الشعبى على حكومة حزب العدالة والتنمية كامل ومتعمق ويبشر بسنوات طويلة من الاستقرار وفوز محقق فى الانتخابات القادمة، بل وقبول بتعديل الدستور لصالح صعود أردوغان إلى منصب رئاسة الجمهورية مزودا بسلطات استثنائية واسعة.

 

●●●

فى ظل مظاهر الرضاء الكاسح وقعنا فى حيرة البحث عن تفسير مناسب لنشوب احتجاج شعبى عارم ضد قرار الحكومة تغيير معالم ساحة «تقسيم» باقتلاع أشجار وإزالة بقع خضراء فى حديقة عامة وإقامة مجمع استهلاكى ضخم وإلى جانبه مجمع ثقافى إسلامى. قيل، ضمن ما قيل فى بداية الأمر، إن الحرص على سلامة البيئة دفع بالشباب إلى غزو ساحة «تقسيم» للاحتجاج، قبل أن يتضح أن الشباب غاضب لأسباب أكثر، وقبل أن يكتشف القاصى والدانى أن فى أداء أردوجان وحكومته سلبيات لم تكن ظاهرة للعيان.

 

●●●

قيل وقيل الكثير. قيل مثلا إن صراعا كان مستترا وصار معلنا نشب داخل الطبقة الوسطى التركية. وفى تعبير آخر تردد أن الصراع هو فى الحقيقة بين «طبقتين أوسط»، طبقة قديمة اعتمدت عليها المؤسسة العسكرية وحكومات ما قبل العدالة والتنمية، وطبقة جديدة تمثل المصالح «الإسلامية» فى الاقتصاد التركى الجديد، وهى الطبقة التى مولت مسيرة حزب العدالة والتنمية نحو السلطة.

 

يكتبون أيضا، ويتحدثون، عن فساد حزبى وشخصى ذى أبعاد واسعة. يحكون ويتحاكون عن ثروات صارت فى حوزة عائلة أردوجان، وثروات فى حوزته الخاصة فى مصارف أجنبية، وعن ثلاث عشرة قضية فساد مرفوعة فى المحاكم ضد أردوجان منذ كان عمدة لأسطنبول ولم تصدر أحكام فيها لاحتمائه بحصانة برلمانية. قيل أيضا إن قطاعا كبيرا فى قيادات البيروقراطية جرى تعيين أعضائه بالمحسوبية وإن فئات من الذين يطلق عليهم «مجاهدى الماضى القريب» وهم من رجال أعمال «إسلاميى» التوجه والتنظيم، أصبحوا يحصلون على امتيازات فوق العادة.

 

قيل إن العالم الغربى وبخاصة المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية اشتركت فى حملة المبالغة فى تلميع صورة الأداء الاقتصادى لتركيا فى ظل حكومة أردوغان بتلميح غير خاف إلى أن هذا التلميع يتصادف مع حملات الغرب الدبلوماسية لتشجيع وصول الإسلاميين إلى الحكم فى دول الربيع العربى.

●●●

يتردد الآن أن كثيرا من مظاهر الأداء الرفيع للاقتصاد فى عهد العدالة والتنمية كان مبالغا فيه، أو أن الأداء تواضع فعليا فى الفترة الأخيرة. معروف مثلا أن تركيا كانت تحتل المكانة الثانية بين الدول ذات النمو المرتفع حين تجاوزت نسبة 8٪، هذه النسبة انخفضت مؤخرا إلى ما لا يزيد على 2.2٪. يضيفون إليها الديون الخارجية والداخلية التى تكلفتها جهود الأداء الاقتصادى المتميز.

 

كذلك يتصدر الأخطاء التى تخصم من شعبية أردوجان سماحه بتدهور علاقاته مع العلويين الأتراك بدءا بإشتراكه فى إدارة الصراع على سوريا، وانتهاء بسوء التقدير الذى صاحب قرار إطلاق اسم السلطان سليم على الجسر الثالث الذى تنوى الحكومة إقامته على مضيق البوسفور.

 

المعروف تاريخيا أنه فى عهد السلطان سليم أى قبل أكثر من أربعة قرون وقعت مذبحة راح فيها أكثر من أربعين ألفا من العلويين، بالإضافة إلى ما سبق، جاءت ثورة الاحتجاجات فى ميدان تقسيم فرصة لم يفتها الإعلام الخارجى للتركيز على حال التردى الذى تدنت إليه حرية الصحافة فى السنوات القليلة الماضية.

 

لا يجادل الكثيرون فى تركيا فى مقولة إن تركيا تتصدر الدول التى تقمع الإعلاميين وتقيد حرية الصحافة. وكثيرون فى الخارج أشاروا إلى موقف الإعلام التركى حين امتنعت صحف ومحطات فضائية محلية عن نشر صور أو معلومات عن تطورات الأحداث فى ميدان تقسيم.

 

●●●

مرة أخرى يثور شعب، أو قطاع فى شعب، فى الشرق الأوسط لأن رجلا فى الحكم أو حزبا أو حكومة مارس الغطرسة وترك الفساد يصول ويجول. مرة أخرى خلال ثلاثة أعوام تلقى حكومة على وسائط الاتصال الإلكترونية مسئولية إشعال ثورة. مرة أخرى تعلن الجماهير وبأعلى صوت إن «الديمقراطية ليست الصندوق» وترفض أن يكون «الصندوق» الطريق الجديد إلى الاستبداد والانفراد بالحكم.

 

مرة أخرى نسمع أن البديل لحزب إسلامى بقيادة أردوغان فصيل إسلامى آخر أقل اعتدالا بقيادة فتح الله جوللين، وهو الفصيل ذو الجذور العميقة فى المجتمع التركى والمنافس المنطقى، وعلى الأخص فى غياب منافس من بين الأحزاب غير الدينية، وكلها تعانى من ضعف وانقسام شديدين.

●●●

هل تكون انتفاضة «تقسيم» خطوة متقدمة على الطريق نحو «شرق أوسط جديد»، هذه العبارة الممجوجة هنا فى منطقتنا ولكن المفضلة وكثيرة التداول فى أمريكا، وهى العبارة نفسها التى استخدمها قبل أيام وزير الدفاع الأمريكى فى تعليق له على أحداث تركيا.؟ أم تكون هذه «الانتفاضة» خطوة متقدمة على الطريق نحو تحرير الدين من السياسة، بعد أن تعرضت سمعة الدين لأضرار بالغة فى كل الدول التى تولى الحكم فيها أحزاب إسلامية فشلت جميعها فى التعامل، باسم الدين، مع مشكلات مجتمعاتها وشعوبها، وبوجه خاص مع مشكلات تتعلق بأمنها الخارجى وسلامة أوطانها وكفاءة إدارة علاقاتها الدولية.؟

 

مرة أخرى نسأل السؤال الأهم فى هذه المرحلة الدقيقة: ألم تكن إساءة إلى الإسلام وتجاوزا غير لائق أن يستخدمه أفراد طامعون فى السلطة ومتغطرسون فى السلوك لتحقيق مصالحهم المادية وأطماعهم السياسية؟

●●●

ثم يفشلون؟

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي