أنظر فى سيرة الصديق الروائى حمدى أبو جليل الذى رحل قبل ثلاثة أيام وأشعر إلى جانب الحزن الغامر بانبهار شديد من النجاحات التى حققها وأضعها تحت بند المعجزات.
فلا يمكن لأحد أن يتصور فى القرن الواحد والعشرين وجود روائى غير متعلم لكنه مترجم لأكثر من خمس لغات أجنبية، فعلها أبو جليل وجاء إلى القاهرة عند منتصف الثمانينيات تاركا قريته التى استقرت فيها قبيلته فى الفيوم وقرر ألا يعود مرة أخرى.
وشأن معظم الريفيين عمل فى (الفاعل) مساعدا لعمال البناء، وتولى رفع شكائر الأسمنت والرمل إلى العمارات التى يجرى تشييدها، وبعد سنوات فى ممارسة المهنة قرر التوقف عن العمل فيها نهائيا استجابة لنداء غامض بأن الكتابة لابد وأن تكون صنعته الجديدة.
وحين تسألنى كيف عرف ذلك؟ أدلك على ابن عمه أشرف أبو جليل الذى تخرج فى دار العلوم وسبقه فى المجىء إلى القاهرة وكان شاعرا واعدا نشطا فى أمسيات الجامعة والمنتديات خارجها وأظن أنه من حرض حمدى على الخروج الأول فى حياته وقاده إلى العوالم التى يعرفها فى القاهرة لكن نقطة التحول أو الانعطافة الكبرى جاءت حين عرفه الشاعر الراحل محمد كشيك بثلاثة أسماء كبيرة من جيل الستينيات وهم محمد مستجاب وخيرى شلبى وإبراهيم أصلان وكان لكل منهم عالمه وأسلوبه لكن ما يجمع بينهم جميعا أنهم لم يستكملوا تعليمهم وفشلوا فى الحصول على شهادات.
وهذا جانب مهم يفسر كيف اطمأن لهم وتعامل معهم كشيوخ وآباء وجد منهم المعاملة التى تليق بابن مدلل يأخذ راحته تماما وهو بينهم، يستطيع أن يعبر عن نفسه بحرية تامة، لا يخشى من ارتكاب فضيحة أو الخروج عن النسق وتحدى الإطار فقد كانوا جميعا ينظرون إلى الكتابة نظرتهم إلى (صنعة اللطافة) لهم أرواح خفيفة، تتصرف بمحبة وتستثمر فى الحياة والضحك ولم يسلموا أنفسهم أبدا للضغينة.
تشابه معهم حمدى فى هذا الجانب وأدرك بفطرته النقية أنه امتداد لتجاربهم الإنسانية، قبل أن يكمل تجاربهم الفنية ويتمكن من الإضافة إليها وإدراك أصالة عالمه الفنى الذى سعى لتفصيل ملامحه بتأنٍ واضح.
حين صدرت مجموعته الأولى (أسراب النمل) فى 1997 وجدت اهتماما كبيرا لكن النجاح الحقيقى جاء مع ظهور روايته الأولى (لصوص متقاعدون) التى أعادت تعريف الهامش الاجتماعى وحددت له موقعا مختلفا فى أدب التسعينيات ولم يعد الهامش مبررا للتعاطف أو الإدانة وإنما هو عالم متكامل له شروطه داخل المركز وتجلت موهبة حمدى الفذة فى صياغة علاقات جمالية بين أبطال روايته الذين يتمتعون بفائض من العنف والكراهية ويحتفلون بممارسة المحارم ضمن تصوراتهم عن الحياة الجميلة التى ينشدونها.
وهكذا حول أبو جليل الهامش من رقعة فى ثوب مهندم قد يسبب فضيحة إلى موضوع للاحتفال وأظهر الواقع القاسى فى صورته الكرنفالية التى لم تكن تنطوى على أى تزييف، لكن عدسته قد اتسعت لترميم فجوات هذا العالم لصالح احترام ما فيه من ضعف إنسانى.
استقبلت الحياة الأدبية هذه الرواية استقبالا فذا، لكنها لم تصبح رواية جماهيرية شأن روايات تقاطعت معها وأذكر أيضا أن ورشة الزيتون أصدرت عددا كاملا من نشرتها الأدبية ضم ما يزيد عن 20 مقالا نقديا حول هذه الرواية التى تحول نجاحها إلى ظاهرة فنية بطريقة سمحت لأبو جليل لتكوين سبيكته الخاصة وفتح حساب خاص بالعملة الصعبة فى بنك الكتابة وضمن بعدها مقعدا متميزا بين مبدعى جيله.
وحين صدرت روايته (الفاعل) بعد خمس سنوات تقريبا تأكد أن الرهان عليه كان فى محله تماما ولما فازت بجائزة نجيب محفوظ التى تمنحها الجامعة الأمريكية قدم كلمة مهمة مجد فيها رغبته الدائمة فى الخروج عن السرب والانحياز إلى (نزقه) الذى مكنه من بناء رؤية للعالم تعزز إيمانه بضرورة الانحراف عن المسار الذى رسمه كبار فنانى الرواية أو «بناة العالم» بتعبير شتيفان زفايج.
ظلت حياة أبو جليل تمجد فكرة الخروج، فقد خرج من مجتمعات البدو وكتب الرواية التى جعلت ذاته لصيقة بفعل الكتابة وتحول صوت الذات إلى صوت للجماعة ولم يمنعه ذلك من الاجتراء على الجماعة وهدم اساطيرها ونزع القداسة عنها.
قلت إننى أنظر لمسيرته وقد اكتملت بانبهار حقيقى وأتأمل كيف حول العثرات إلى خطوات وكيف تعامل مع الندوب كـ«أوسمة» وسلك طريقا لم يكن ممهدا أبدا وقد عاينت صعوباته منذ البداية،
وانظر معى كيف خلق أبو جليل لروحه مسارا مختلفا فى القضايا التى قاوم عبرها النزعة المحافظة التى تأسس عليها وحين أطالع صورته مع ابنته (هالة) التى علمها الموسيقى أو مع ابنه (هشام) الذى كان يحتفى برسومه أدرك إلى أى مدى كان يواجه ثقافة محافظة ويتحداها على طريقته وكنت أحدثه دائما عن حساسيته الفائقة تجاه المرأة وانحيازه الدائم لقضاياها فيردنى إلى دور أمه فى حياته وأتذكر أنه منحها أفقا أسطوريا فى جميع حكاياته وفى روايتيه (قيام وانهيار الصاد شين) و(يدى الحجرية).
وقد بلغ فى الروايتين ما كان يتمناه وعثر على لغة تمثله تماما تقارب النبرة التى كان يحكى بها، انتصر أبو جليل للغة الحياة وقاوم لغة المعاجم والقواميس وخاض معاركه كلها من موقع (المتحمس) وليس المتمهل وعاش حياته كلها فخورا بسعيه لتصدير نفسه أو توريطها.
صدر حمدى أبو جليل نفسه للموت بشكل خاطف وتعامل مع الحياة كطلقة واحدة تصدى لها بجسارة وأظن أنها لم تهزمه أبدا فهى لم تأخذ ضحكته ولم يخذله إيمانه بنفسه، ولأنه (الفاعل) لم يتوقف سعيه إلى امتلاك معرفة أعمق بالأفكار أو بالبشر وهذه هى رسالة أى كاتب حقيقى سواء عاش دهرا أو ساعة واحدة.