وصية محمد منير - خالد محمود - بوابة الشروق
الأربعاء 13 أغسطس 2025 11:29 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

وصية محمد منير

نشر فى : الأربعاء 13 أغسطس 2025 - 7:05 م | آخر تحديث : الأربعاء 13 أغسطس 2025 - 7:05 م

فى أيامنا المزدحمة بالتكرار والضجيج، لا يزال صوت محمد منير مختلفًا، طازجًا، كأن الزمن لا يمسّه. صوته يأتى من مكان أعمق من الحبال الصوتية، من مكان نعرفه فى دواخلنا دون أن نسميه. حين نسمع منير، لا نسمعه فقط، بل نشعر أننا نُسمع.

 

 

مؤخرًا، تابع محبو منير بقلق حالته الصحية، التى أثارت موجة واسعة من التضامن والدعاء، ثم ارتياحًا كبيرًا عقب أنباء تعافيه. ولم تكن هذه الأزمة مجرد خبر عابر، بل لحظة تأمل جماعى فى قيمة الرجل الذى تجاوز الغناء، ليصبح رمزًا للصدق الفنى والهوية الثقافية.

لم يكن مجرد فنان متألم يتلقى الدعم من جمهوره، بل كانت مصر كلها – وربما العالم العربى – يراقب بقلق، ويدعو له بصدق، كما لو أن أحد أفراد الأسرة يمر بلحظة ضعف. منير ليس نجمًا عابرًا، بل حجر أساس فى وجداننا الجمعى.

نشأنا على صوت منير لا كخلفية موسيقية، بل كرفيق وجدانى. كل أغنية له ترتبط بلحظة: «الليلة يا سمرا» فى أول فرحة، «شبابيك» فى أول عزلة، و«حدوتة مصرية» فى كل تأمل فى هوية هذا الوطن المربك والساحر.

أغانى منير لم تكن مرهونة بزمانها، بل كانت دائمًا تسبقنا بخطوة، تحملنا من مشاعرنا إلى أسئلة أكبر: من نحن؟ ماذا نريد؟ هل ما زال الحلم ممكنًا؟

فى «يونس»، نجد الغربة. فى «الناس فى بلادى»، نجد الوجع. فى «أنا بعشق البحر»، نجد أنفسنا. أما فى «إزاى؟»، فنجد الوطن كما نراه نحن، لا كما يُراد لنا أن نراه.

أغانيه ليست فقط أعمالًا فنية، بل وثائق شعورية لحالات عاطفية ووطنية وإنسانية.

فنان لا يساوم..على مدى عقود، ظل محمد منير وفيًا لقيمه الفنية والإنسانية. لم يركض خلف «التريند»، ولم يغيّر جلده ليرضى جمهورًا مؤقتًا. كان وما يزال، فنانًا من طراز نادر، يرى أن الكلمة مسئولية، وأن اللحن موقف، وأن الفن ليس مجرد ترف، بل ضرورة.

أصرّ أن يغنى للمهمّشين، للنوبة، للجنوب، للمرأة، للحرية، للإنسان.

مزج الهم الإنسانى بالشجن الشعبى والسياسة بالحلم.

لم تكن شهرته سهلة، ولا طريقه مفروشًا. اختار الصعب، ودفع ثمنه، لكنه انتصر.. لأنه لم يساوم.

كان دائمًا مشغولًا بأن يحمل صوته رسائل أكبر من مجرد التسلية. صوته لم يكن أداة طرب فقط، بل وسيلة مقاومة ناعمة، فيها وجع، وفيها أمل.

بعيدًا عن الأضواء، منير كان – ولا يزال – إنسانا بسيطا، خجولا، متأملا، قريبا من الناس بطريقة لا تحتاج إلى تكلّف. هو ذاك الفنان الذى لا يتحدث كثيرًا، لأن صوته يقول ما لا تقوله الكلمات.

وحين يغيب منير عن المشهد، نشعر بأن شيئًا ناقصًا فى العالم. ليس لأنه مطرب شهير، بل لأنه يمثّل ما تبقّى من «الصدق» فى عالم طغى عليه الزيف.

فى أكثر لحظاتنا قسوة، يعود منير ويهمس لنا بصوته: «لو بطلنا نحلم نموت». تلك الأغنية التى تحولت إلى ما يشبه الوصية. ليست فقط لحنا محفزا، بل تعبيرا دقيقا عن فلسفة فنان لم يتخلَّ يومًا عن الحلم، رغم المرض، رغم الغربة، رغم الألم.

بالنسبة لى، لا أغنية لمستنى كما فعلت هذه. كلما ضاقت الدنيا، كلما اختنق الأفق، أعود إليها، فأجد فيها التذكير البسيط العميق: أن الحلم هو ما يبقينا أحياء.

وها هو منير، كما عهدناه، يعود من محنته، لا ليستأنف الغناء فقط، بل ليؤكد لنا – مرة أخرى – أن الصوت الحقيقى لا يُهزم، وأن الحلم لا يُقتل، ما دام هناك من يؤمن به، ويغنيه لنا.

نعم فى حياة كل واحد منا أغنية لمحمد منير، ترتبط بذكرى، بحب قديم، بشتاء عابر أو مساء طويل تأملنا فيه أنفسنا. منير لم يكن مجرد مطرب، بل كان - وما زال - صوتًا عميقًا من داخل الروح، يُغنى لنا لا من فوق المسرح، بل من داخلنا.

منير بالنسبة للكثيرين هو الحنين، وهو الوطن، وهو السند العاطفى فى لحظات الانكسار والفرح معًا. لذلك، لم يكن غريبًا أن يتوحد الناس على الدعاء له والتفاعل مع تعافيه كما لو كان فردًا من العائلة.

خالد محمود كاتب صحفي وناقد سينمائي
التعليقات