أخيرا اقتنعت بأهمية وضرورة أن أخرج لأتبضع بنفسى بعض احتياجاتى. كانت وجهتنا أحد أهم «مولات» ضواحى القاهرة. وكان هدفى محدودا ومحددا، وهو شراء قمصان من مقاس أكبر من المقاس الذى عشت لا أغيره طوال العقد الأخير. مررنا على جناح لا يبيع إلا ملابس الشباب من الجنسين ثم على جناح متخصص فى أزياء النساء وصولا إلى جناح الرجال. توقفت أمام فاترينة ثم أخرى ثم ثالثة. راعنى ما رأيت من تماثيل لرجال ارتدت ثيابا فاخرة وأحذية أنيقة وأربطة عنق ملفتة. تركتها واتجهت نحو فاترينة أخرى لأجد التماثيل نفسها بالتقاطيع نفسها، والبشرة البيضاء الكالحة نفسها، والشعر الناعم الكثيف نفسه، والقوام البديع جدا نفسه. تغيرت فقط ألوان البذلات والأحذية والقمصان وأربطة العنق. فاترينة بعد أخرى والتماثيل صاحبة القوام الرفيع لا تتبدل. تأملت وفكرت وقررت. لن أجد فى هذا المكان حاجتى، فزبائن هذه الدكاكين لا شك مختلفين عنا، نحن المواطنين العاديين من أبناء هذا البلد، مختلفون فى كل شىء، فى الوزن والحجم والطول والعرض واللون. زبائنها بشر من عالم آخر يختلفون عن بشر العالم الذين نعيش بينهم ونختلط بهم، لا نرتدى ما يرتدون ولا يرتدون ما نرتدى.
•••
أما وقد جربنا الثورات ونعيش الآن مرها بعد أن عشنا حلوها، فقد فكرت للحظة فى السبب الذى منع ملايين المصريين والمصريات من الانتفاض والخروج إلى الشوارع فى مظاهرات تهتف بسقوط تماثيل الأزياء، أى المانيكانات التى نراها واقفة أو مستلقية أو جالسة فى واجهات المحلات التجارية تتحدى أغلى ما عندنا، تتحدى زهونا وإعجابنا بأنفسنا، أو تتحدى رجولة رجالنا وأنوثة نسائنا. خرجوا لأسباب عديدة أقل أهمية. وفى كل الأحوال لم يعدموا سببا أو ذريعة. لماذا لا يثورون كما ثارت نساء ورجال فنزويلا. شعب خرج ليحطم إرادة «مجهولة الهوية» تحاول منذ زمن أن تفرض على المرأة الفنزويلية أن تكون هيفاء الطول، ناعمة الشعر منسدلا على كتفيها، يكاد يلامس صدرا كاد بدوره يخلو من علامات الأنوثة، وتقف على ساقين بديعتى التناسق لا علاقة لهما بسيقان أهل المدينة. أما الوجه، فكجسد المانيكان، يحمل التقاطيع نفسها التى يحملها وجه كل مانيكان فى أى واجهة زجاجية فى أى مكان فى العالم بما فيه الصين واليابان وأفريقيا والهند، الأنف والشفتان والعينان والخدان تماما كما تبدوان فى وجوه سيدات خارجات لتوهن من عيادة طبيب متخصص فى عمليات تجميل الوجه.
•••
ثارت النساء فى فنزويلا وضغطن على الحكومة وأصحاب المصانع التى تنتج العرائس (المانيكان)، فهن غير راضيات عن ذوق أصحاب المصانع وتحيزهم للطبعة القوقازية ــ الأوروبية للمرأة. كيف يمكن لوطن أخرج للعالم خمس ملكات جمال فى مسابقات متعاقبة يقبل أن يفرض عليه أحد مقاييس أخرى للجمال تختلف عن مقاييسه التى يعتز بها ويفخر. لكل أمة مقاييسها، ولن تسمح الأمة الفنزويلية أن يأتى يوم يصبح فيه الجمال، كالديمقراطية نسقا مستوردا كاملا ومتكاملا، نسقا لا يسمح بإضافات أو تحسينات أو اجتهادات محلية، ولا يخضع لظروف خاصة أو بيئة ثقافية مختلفة. «الجمال الفنزويلى»، تقول الفنزويلات، «خاصية وطنية نرعاها ونحافظ عليها ونفخر بها نحن النساء، ويشاركنا فى الاعتزاز بها الرجال أبناء هذا الوطن».
•••
أليس من حق ذوات الدخول المحدودة أن تكون «عرائس الأزياء ــ المانيكانات» على شاكلتهن، وأن تكون الأزياء التى ترتديها لتروج لها من مقاسات وأذواق تتناسب وأحجام نساء هذه الطبقة؟ أليس من حق المرأة الفقيرة أو متوسطة الدخل أن يكون للمانيكان، المعروض فى دكان أزياء بالحى الذى تقيم فيه، صدر كصدور أغلب الفنزويليات، وأن تدفع الدولة للأقلية المحرومة من هذه «النعمة» تكلفة إجراء عملية تجميل فتزهو زهو الأغلبية وتضيق الفجوة التى تفصل بين أغلبية وأقلية داخل المجتمع الواحد. أليس من حق الرجال، فى عمر معين، ألا تجبرهم آليات السوق على ارتداء قمصان «Slim Fit» تكتم أنفاسهم وتضيق الخناق على بطونهم؟
•••
نجحت ثورة النساء فى فنزويلا. أصحاب دكاكين الأزياء فى الأحياء الأقل ثراء استبدلوا العرائس، بعد الثورة، بعرائس بشرتها سمراء وصدرها ممتلئ وأردافها أيضا، بينما بقيت العرائس فى دكاكين الأحياء الأرستقراطية وفية لتقاليد الطبقة التى تتشبه بعرائس الولايات المتحدة وأوروبا.
•••
ما يزال الجدل فى فنزويلا حادا كعادة الثورات. يدور الجدل حول ما إذا كانت هذه التحولات التى ادخلت على تفاصيل أجساد عرائس الأزياء تتفق مع مبادئ الاشتراكية، أيديولوجية الدولة الفنزويلية كما تبناها الرئيس الراحل هوجو شافيز فى نهايات القرن العشرين، ومع مبادئ التحرر القومى التى صاغها زعيم الأمة البوليفارية سيمون بوليفار فى مطلع القرن التاسع عشر، ومع أخلاقيات الكاثوليكية، دين الشعب. بعض الناس يعتبر الزهو بالجمال الفنزويلى نوعا من التطلعات البرجوازية المكروهة. بعض آخر يرى العكس. فالاعتزاز بالجمال المحلى تمجيد للوطن وللأمة وروح الاستقلال الوطنى وتأكيد الحاجة إلى مواصلة النضال ضد إمبراطورية «اليانكى».
بعض ثالث معترض على الثورة من أساسها لأسباب دينية، هؤلاء يرفضون المساس بالشكل كما خلق.