التعذيب قديم قدم الزمان»، هذه هى الخلاصة الأولى التى وصلت إليها من قراءتى للتاريخ.. وكان التعذيب قديما يهدف أساسا لتغيير الإنسان لعقيدته الدينية أو اتجاهاته السياسية.
وقد ذكر التعذيب فى قصة أصحاب الأخدود، التى حكى الرسول فيها، أن الملك عذب الراهب حتى دل على الغلام.. ولم يعب الرسول على الراهب لأنه وقع فيما يسميه الفقهاء «الإكراه الملجئ الذى يسلب الإرادة ويلغى المساءلة الشرعية والقانونية».
أما الخلاصة الثانية فهى «أن كل الدول تعذب وخاصة إذا تعرض أمنها القومى أو حكمها لتهديد شديد».. فقد قابلت فى السجن سجناء قدموا من معظم سجون العالم.. وكان كل منهم يتحدث عن التعذيب الذى وقع عليه.. وكل الدول الديمقراطية الآن عذبت خصومها فى حالة الحروب والصراعات ومنها اليابان والصين وألمانيا وفرنسا وبريطانيا.. أما الدول العربية كلها ففيها تعذيب متواصل.
أما الثالثة: «قسوة واتساع التعذيب فى البلد الواحد يختلفان من وقت لآخر»
فقد بدأ التعذيب للإسلاميين فى عهد فاروق بعد اغتيال النقراشى.. ثم انتهى مع بزوغ فجر ثورة يوليو 1952 ثم اشتد أواره بعد محاولة اغتيال ناصر فى المنشية، ثم هدأ وسكن ثم عاد بعنف بعد القبض على تنظيم الشيخ سيد قطب 1965.. ثم انتهى تماما فى عهد السادات الذى كان من حسناته إلغاء الطوارئ ووقف التعذيب للسياسيين واعتبار التعذيب جريمة لا تسقط بالتقادم.
ثم عاد التعذيب كأبشع ما يكون فى أول عهد مبارك بعد أحداث جسام، أبرزها اغتيال السادات.. ثم هدأ تماما فى عهد أحمد رشدى.. ثم عاد من جديد بفظاعة لا مثيل لها فى التسعينيات فى عهد الألفى الذى شهد أحداثا كثيرة واستمر بحدته وشدته حتى تم تفعيل مبادرة منع العنف التى جعلت كل شىء يهدأ.
وكان للمرحوم اللواء/ أحمد رأفت الدور الأكبر فى وقف منظومة التعذيب وانتهاك الكرامة الإنسانية والدينية فى السجون والمعتقلات وتحويل السجون المصرية منذ 2002 إلى أحسن السجون العربية.. ووقف حملات الاشتباه والقبض العشوائى والاهتمام بالرعاية الصحية والاجتماعية والتعليمية للمعتقلين والإفراج عنهم فى دفعات.
واستطاع هذا الرجل مع ثلة من تلاميذه ورؤسائه، إرساء سياسات تقوم على التفاهم والحوار بعيدا عن منطق البندقية والكرباج أو المتفجرات، ونجح فى خلق سنوات الهدوء والاتزان بين الحرية الإنسانية والدينية ومتطلبات الأمن القومى.. وهو ما لا تحسنه أكثر دول العالم الثالث.
ولن أنسى المستشار/ عبد العزيز الجندى الذى كان نائبا عاما لمصر فى منتصف الثمانينيات والذى أصر على تقديم المتهمين بالتعذيب للمحاكمة، وهدد بالاستقالة إن لم يتم ذلك.. فما كان من مبارك إلا أن رضخ لرغبته، ففرغ الرجل العظيم كل مساعديه لهذه المهمة لتتم لأول مرة محاكمة المتهمين بالتعذيب فى نفس العصر الذى ينتمون له.. فى سابقة مهمة فى تاريخ مصر.
ولكن اللواء زكى بدر أقسم لهؤلاء الضباط أنهم سيخرجون براءة جميعا .. وقد كان.
وقد قابلت وقتها مأمور سجن الاستقبال وكان برتبة العميد وضمن المتهمين .. وكان رجلا حكيما عاقلا يكره التعذيب.. ولكن التعذيب حدث فى سجنه فذكر اسمه من كل المجنى عليهم.
فقال لى: هذه القضية كلها ستخرج براءة قلت له : كيف ذلك ؟.. قال : لأن معنا «خاتم النسر».. وهو «مفتاح كل شىء».. فمن يقول إن فلانا عذبه يوم كذا فى سجن كذا سيكون هناك خطاب مختوم بختم النسر أنه فى هذا اليوم كان فى مأمورية فى محافظة أخرى.
قلت له: صدقت.. الدنيا ليست بدار عدل.. وما يتم فيها من عدل قليل هو نسبى.. وقال لى: أنا لم أمس إنسانا .. وما تم فى سجنى كان رغما عنى ولا أملك منعه.. وإلا سجنت مع الآخرين والمأمور فى هذه الأيام لم تكن له سلطة سوى موضوع الإعاشة.
وأذكر فى هذا السياق بالفضل اللواء/ أحمد عبدالونيس الذى كان مأمورا لسجن أسيوط برتبة مقدم.. ورغم صغر رتبته إلا أنه رفض أن يتم تعذيب أحد فى السجن.. ولا أدرى هل هو على قيد الحياة الآن أم لا ؟!.. فرحمه الله وعافاه حيا وميتا.
أقول ذلك كله بمناسبة صدور تقرير التعذيب، الذى مارسته C.I.A الأمريكية ضد الإسلاميين، الذين أدينوا فى أحداث 11 سبتمبر وغيرهم من المعتقلين الإسلاميين.. مما يمثل فضيحة كبيرة لأمريكا التى تدعى رعاية حقوق الإنسان والديمقراطية فى العالم كله وحمايته.