نشرت صحيفة المغرب التونسية مقالا للكاتبة آمال قرامى، تحدثت فيه عن حنكة ومهارة فريق جنوب إفريقيا القانونى فى أثناء مناقشة شكواه أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، إذ تجنب الفريق التلاعب بالمشاعر وجذب التعاطف مع الشعب الفلسطينى بعرض صور أو فيديوهات تظهر معاناتهم، بل استند على المنطق والحقائق مدعما ادعاءه بتصريحات السياسيين الإسرائيليين، مجددين بذلك إيمان وثقة العالم فى القانون والحق... نعرض من المقال ما يلى:
ما أكثر الدروس التى تعلّمناها من حرب إبادة غزة! منها ما يتعلّق بسقوط النظام المعرفى القائم على التمركز الغربى أو الأوروبى، ومنها ما له صلة بمنظومة القيم والمعايير الكونية التى أدركنا أنّ بعدها الكونى هو فى الواقع، محدود جدا، ومنها ما له علاقة بصحوة الإيمان وتسليم الجماهير من علمانيين وإسلاميين، وحداثيين، ونسويات اشتراكيات... بأن لا عدالة فى الأرض وأنّ النصر سيأتى من الله، ومن المقاومة، ومنها أنّ الثورة على القهر لا تقاد باسم الدين أو الأيديولوجيا بل بدافع الحسّ الإنسانى وصحوة الضمير وتتجاوز الدين والسن والعرق والطبقة... إلى غير ذلك من الدروس والعبر.
وها نحن اليوم نتابع بشغف فريق مرافعة الفريق القادم من جنوب إفريقيا، وهو يعرض الحجج والبراهين الدالة على تعمّد دولة الاحتلال إبادة الشعب الفلسطينى ومصادرة حقهم فى الحياة. فنتبين منهج وضع الخطة وبلاغة الدفاع إذ لم ينطلق الفريق، كما هو متوقع، من الإشادة بتاريخ جنوب إفريقيا وشرعية نضال شعبها الذى واجه التمييز العنصرى والتطهير العرقى وإنّما آثر الفريق التركيز على الأحداث وتنشيط ذاكرة المتابعين وذلك بالعودة إلى تاريخ الاستعمار وتاريخ الانتهاكات ومأسسة التمييز العنصرى من خلال وضع السياسات وترسيخ الممارسات، وبالإضافة إلى توظيف سياسات الذاكرة توقف الفريق عند ظاهرة الإفلات من العقاب وعدم الاكتراث بالتقارير الصادرة عن الأمم المتحدة والتى حذرت من الإبادة الشاملة. كما أنّ الفريق اختار لفت الانتباه إلى تعدّد صور الانتهاكات ووصف مظاهر التدمير الشامل مرفقا الخطاب بالأرقام والإحصائيات وموضحا القصدية ومشيرا فى الآن ذاته إلى النتائج المترتبة عن التقتيل والتهجير والتجويع والإذلال وغيرها من الأفعال التى استهدفت الجميع حتى الحوامل والرضع.
واختار الفريق توظيف بعض الصور الأساسية التى تثبت التجويع والاحتلال ــ برفع علم إسرائيل بعد تدمير البيوت والمستشفيات ودور العبادة وغيرها من الأماكن التى تعج بالناس العزّل. ولم يسقط الفريق فى المشهدية واستدرار التعاطف والتلاعب بالمشاعر فى عصر الصورة وكانت خطته قائمة على الإقناع بالمنطق والتوقف عند بعض الفيديوهات التى تبين أنّ المصدر هو خطابات المسئولين السياسيين كنتنياهو ووزير الدفاع وبعض المسئولين فى القيادة العسكرية فضلا عن أغانى الجنود التى تحتفى بالتقتيل وتتنزل فى إطار الحث على الكراهية والقتل، وتجريد الفلسطينيين والفلسطينيات من إنسانيتهم وتحويلهم إلى حيوانات وأشياء، بل هم نفايات لابد من التخلص منها.
كلّ المبررات تؤكد قصدية الفعل الإجرامى وتعرّى بشاعة ما حدث وتوضح أنّ الخطابات وردت على لسان أصحابها ولا تقبل التأويل وهى فى تعارض كلىّ مع ما ورد فى الاتفاقيات والمعاهدات وكل النصوص القانونية. وكأنّ الفريق أراد أن يقول للعالم «وشهد شاهد من أهلها» فلمَ تتلاعبون بالحقائق ويزور الإعلام المتواطئ المعطيات الواردة من غزّة؟
كان الرهان على عرض الحجج والبراهين بطريقة تخاطب أصحاب الضمائر الذين يعرفون واجب حماية الأرواح ويدركون أنّ المواثيق وضعت بهدف إنهاء قرون من الاضطهاد والقمع والتوحش.
عمل الفريق تطلب دقة وتمحيصا ونقاشا مطولا حول خطة العرض والصور والفيديوهات والعبارات المختارة ونبرة الصوت والإيقاع وانتقاء للنصوص القانونية والأحداث التاريخية المستشهد بها والأقوال المعتمدة وغيرها من التفاصيل...
الدرس يأتى من بلد عرف معنى هدر الكرامة والإذلال والاستغلال والقهر والحرمان من الحق فى الحياة فصار قائد المبادرة والمسئول عن إعادة البوصلة إلى اتجاهها الصحيح، ولذا شكر الشعب التونسى والعالم العربى جنوب إفريقيا لأنّها أعادت لهم الثقة فى القانون والعدالة وصحوة الضمائر فأدرك أغلبهم أن لا حلّ لنا إلا فى اكتشاف بلدان الجنوب التى «تشبهنا» والانطلاق فى رحلة التعلم وبناء الذات من موقع مختلف.