منذ أسبوع ناقش أعضاء منتدى التنمية، الذى يضمُّ مجموعة من مثقَّفى دول مجلس التعاون، موضوع الخلل السكانى فى دول المجلس. وبالرَّغم من الدراسات الممتازة التى قدٍّمت والمناقشات المستفيضة للكثير من جوانب هذا الموضوع فإننى شعرت بأن المجتمعين لم يولوا النقاط الأربع المفصلية التالية حقّها من الإبراز المطلوب والأولوية التى تستحق.
●●●
أولا: لقد بيُّن الكثير من المتحدثين أن أصل ظاهرة الخلل السكانى هو وجود خلل فى منطلقات وطرائق الإدارة السياسية والاقتصادية التى تدير بهما سلطات الحكم مجتمعاتها. وبالتالى فان إصلاح الخلل السكانى يمرَّ عبر إصلاح السياسة والإقتصاد. لكن ذلك التشخيص الصحيح لا يبرز خطورة ظاهرة الخلل لسكانى التى تحمل خطرا وجوديا على مجتمعات المجلس. إنه خطر وجودى لأن نسبة المواطنين إلى نسبة الوافدين تتناقص بصورة مذهلة فى كل دول مجلس التعاون، وقد أشار أحد الحاضرين إلى أن نسبة المواطنين فى دولتين من دول المجلس ستنخفض إلى أقل من واحد فى المائة خلال العقدين القادمين إن استمرَ تدفُّق الوافدين الحالى إليهما بنفس الوتيرة الحالية. هذا التناقص فى عدد المواطنين سيلازمه تهميش كبير لهوية مجتمعات المجلس اللغوية والثقافية والدينية. وهكذا فإن التراجع الكبير فى نسبة المواطنين والإضعاف المفجع للهوية العربية الإسلامية سيقودان إلى خطر وجودى هائل على الوجود العربى فى جغرافيا الخليج. لسنا أمام خلل سكانى أو سياسى أو اقتصادى، نحن أمام خلل وجودى.
●●●
ثانيا: أجمع الحاضرون على أن توفُّر الفوائض المالية الهائلة، بسبب اضطرار دول المجلس للإستجابة لحاجات العالم المتنامية من البترول والغاز، تؤدٍّى بالضرورة إلى توجيهها نحو توسُّع مستمر فى النشاطات الاقتصادية والخدمية. وهذا التوسُع والنمو المتعاظم فى الإقتصاد يستوجب نموا وتوسُعا مماثلا فى استيراد العمالة الأجنبية من الخارج، والذى يؤدٍى وجودها بأعداد كبيرة إلى خلق مزيد من النشاطات الاقتصادية والخدمية لتلبية حاجاتها وحاجات عائلاتها.
ولما كان العالم العولمى لن يسمح قط لدول مجلس التعاون بتخفيض كميات ما تنتجه من بترول وغاز من أجل كسر حلقة الانتاج الكبير الذى يؤدى إلى مداخيل كبيرة، التى بدورها تؤدى إلى توسع اقتصادى متنامى، والذى بدوره يؤدّى إلى استيراد متعاظم للعمالة الأجنبية، والذى أخيرا يؤدى إلى خلل سكانى.. فإن الحل المعقول هو أن يوجَه جزء كبير من فوائض أموال البترول والغاز لاستثماره خارج دول المجلس. لكنَ الحاضرين لم يجيبوا عن سؤال: أين يجب أن يتمَ استثمار هذه الفوائض وبأية طرق؟ وهل أن لدى حكومات ومجتمعات دول مجلس التعاون التزامات قومية وأخلاقية ودينية لاستثمار تلك الفوائض فى الوطن العربى من أجل المساعدة فى بناء اقتصاد عربى متين يتكامل مع اقتصاد دول مجلس التعاون؟
●●●
ثالثا: وحتى لو أن جزءا من الفوائض المالية استثمر خارج مجتمعات المجلس للأسباب التى ذكرنا من قبل فإن صغر عدد سكان كل دول المجلس لن يستطيع تلبية حاجات التوسُع الاقتصادى من العمالة، حتى ولو كان توسعا غير كبير. وعليه فان الحاجة لاستيراد عمالة من الخارج ستظلُ معنا لسنين كثيرة قادمة. وهنا أيضا لم يجب على السؤال المفصلى التالى: إذا كان تزايد العمالة الأجنبية سيحمل فى طياته مخاطر كبيرة على الهوية العربية الإسلامية، كما فصَّلنا سابقا، أفلا يتطلب درء هذا الخطر الوجودى أن يكون القسم الأكير من العمالة المستوردة من الخارج عمالة عربية من شتى بقاع الوطن العربى بدلا من أن يكون أغلبها من شرق آسيا؟ بل أكثر من ذلك: أليس عملا منطقيا أن تدرب االعمالة العربية ويرفع من مستوياتها الفنية، ثم يوطن الجزء الصالح المنتج منها فى دول مجلس التعاون لتعويض الخلل الفادح فى نسب المواطنين مقارنة بغير المواطنين سواء أكان هؤلاء من العمالة الوافدة أو من الأجانب الذين تبنى لهم مئات الألوف من الوحدات الإسكانية لشرائها أو استئجارها؟ ونحن هنا بالطبع نتكلم عن تجنيس وتوطين قانونى مبنى على الكفاءة والحاجة وتوفر إمكانية المواطنة الصالحة، وليس عن التجنيس الطائفى أو القبلى أو السياسى أو الاقتصادى النفعى الذى لا يخدم مصلحة الوطن وإنما يخدم التوازنات والمصالح الآنية لهذه الجماعة أو تلك.
●●●
رابعا: عندما جاء الحديث عن البطالة بين مواطنى مجلس التعاون بالرُغم من الاستيراد المتنامى للعمالة الأجنبية تركز النقاش حول النواقص فى الثقافة العربية التى تجعل الشباب يأنف العمل بيديه. لكن السؤال التالى لم يطرح: هل حقا أن حكوماتنا غير قادرة على وضع برامج توعية للشباب، وإيجاد أشكال من مؤسسات التدريب وإعادة التدريب، ووضع القوانين والأنظمة، بحيث لا يكون هناك عاطل واحد بين مواطنى هذه الدول؟ إن القضية تكمن فى عدم وجود الإرادة الوطنية التى تتعامل مع المواطنين كأغلى وأهم مكونات الدولة، بدلا من النظر إليهم كأدوات انتاجية اقتصادية.
●●●
موضوع الخلل السكانى يحتاج إلى أن يعالج من خلال حلول لجوانبه المفصلية، والتى بدورها تحتاج إلى ارادة وطنية والتزام قومى عروبى والكثير من الشجاعة. وفى هذه الحالة يجب أن تتناغم الارادة الوطنية مع قرارات والتزامات على مستوى قمم مجلس التعاون.
مفكر عربى من البحرين