تحيرنى حالة الارتياح التى تسود منظومة صنع القرار فى إسرائيل، بلد محاط بمنطقة شديدة الاضطراب وبشعوب تغلى ومدن تدمر وجيوش خارج معسكراتها وأسلحة يدوية وصواريخ خارج صناديقها التى حافظت عليها لسنوات طويلة وحكومات بشرعيات ثورية وجماهير فى الميادين والشوارع تلعن كل ظالم ومستبد. جميع هذه العناصر وكل عنصر منها فتيل جاهز للاشتعال وإشعال المنطقة بأسرها، ومع ذلك تنشغل منظومة القرار فى إسرائيل بالتخطيط لحرب ضد إيران وتبعث بأهم قادتها ليبيعوا الفكرة فى واشنطن أملا فى أن يحصلوا من الولايات المتحدة على غطاء لعودة آمنة لطائراتهم من إيران بعد قصف مفاعلاتها وبعض قواعدها.
يبدو لى من قراءة التقارير الإسرائيلية أن بنيامين نتنياهو وشيمون بيريز وإيهود باراك عادوا جميعا من واشنطن مطمئنين إلى أن أمريكا لن تتخلى عنهم، إن هم حددوا، رغم معارضتها، موعدا لشن حرب تدمر مفاعلات إيران النووية. هم مطمئنون إلى أن عودتهم من الحرب ستكون مؤمنة عسكريا بالقواعد الأمريكية المنتشرة فى الجزيرة العربية والعراق وأفغانستان والمحيط الهندى، وربما تركيا. وستكون مؤمنة سياسيا، فالالتزام السياسى ثابت حسب تأكيد الرئيس الأمريكى لمؤتمر الآيباك، لن يصدر قرار من محفل دولى يدين الحرب أو يعاقب إسرائيل كدولة معتدية. لا فضل زائدا من أوباما إذ لم يحدث أن أدينت فى حرب سابقة ولن تدان فى حرب قادمة.
ومع ذلك أعتقد أنهم عادوا قلقين لأنهم على عكس المألوف وجدوا الرئيس والرأى العام ومختلف الأجهزة العسكرية والاستخباراتية الأمريكية غير مرحبة بحرب تشنها إسرائيل فى الوقت الراهن وتشارك فيها أمريكا. تخيلت أن يكونوا توجهوا إلى الولايات المتحدة غير واثقين تماما من مغزى «الركود الإقليمى العربى» إزاء إسرائيل كدولة وإسرائيل الكبرى كمشروع وإسرائيل «المعتدية» دائما فى الشرق الأوسط، تخيلت أنهم راحوا يستنجدون بخبرة أمريكا ومعلوماتها علها فهمت الثورات العربية وخمنت مصائرها. أظن، استنادا إلى ما قرأت عن مناقشات دارت فى إيباك وبين المسئولين، أن الأمريكيين كانوا أقل اطمئنانا من الإسرائيليين بالنسبة للتصرفات المحتملة من جانب الحكومات العربية، سواء كانت حكومات ثورات أو حكومات مضادة للثورات. حاول الاسرائيليون الإيحاء إلى الأمريكيين بأن حكومات الثورة، كالحكومات المناهضة للثورة، لاهية عن فلسطين وإسرائيل بمشكلاتها الداخلية كذريعة أو حقيقة. سمعت أن هناك من أطلق على المنطقة العربية فى حالتها الراهنة صفة «البحيرة المضطربة التى لا يتأثر سطحها بحجر يلقى فيها حتى وإن كان الحجر فى حجم حرب تشنها إسرائيل على إيران».
●●●
حاولنا مرارا أن نفهم طريقة تفكير هذا العدو الجاثم على حدودنا الشرقية. والآن نحاول مرة أخرى فنسأل، إذا كانت المنطقة العربية هادئة، وإذا كان لا خطر فى أى صورة ومن أى جهة عربية يهدد أمنه، أو حتى أمن مستوطناته ومؤسساته واعتداءاته فى غزة أو القدس أو غيرهما، فلماذا تفتح إسرائيل الباب أمام احتمالات، قد يهدد أحدها هذا الاستقرار أو يغير من حالة ثورات عربية إحداها صارت وديعة والأخرى مروضة والثالثة محبطة والرابعة تفرقت شيعا وقبائل.
تذهب الإجابات عن هذا السؤال فى كل اتجاه. قيل إن أوباما شخصيا هو الهدف من حملة الترويج للحرب. فإسرائيل لا تريد أن ترى أوباما فى منصب الرئاسة لمدة أربع سنوات أخرى. يقول غلاة الصهاينة إن أوباما أخطر على إسرائيل من إيران، وقد صاغ توماس فريدمان هذا الرأى فى مفارقة مثيرة حين وصف أوباما بأنه أفضل صديق لإسرائيل بين كل رؤساء أمريكا، فى وقت يعتبره المتطرفون اليهود أخطر أعداء إسرائيل للسبب نفسه الذى جعل فريدمان يصفه بأنه أفضل صديق. أوباما يتصور أن الأقدار كلفته بأن يحمى إسرائيل من نفسها، وبناء على هذا التكليف يحاول أن يثنيها عن شن حروب جديدة فى الشرق الأوسط، ويضغط عليها لتعتدل مع الفلسطينيين.
●●●
نتنياهو وجماعته وبخاصة الفريق الذى يدير أنشطة منظمات الضغط الصهيونية فى أمريكا، يعرفون أن قيادات الجمهوريين دعاة حرب وأنه إذا استمرت الدعوة لحرب على إيران مثارة حتى اقتراب موعد انتخابات الرئاسة، فالاحتمال كبير أن يضطر أوباما إلى النزول عند رغبة المحافظين والإذن لقواته بالتدخل لصالح إسرائيل. إذا لم يفعل، وفى الغالب، لن يفعل، سيخسر الانتخابات ويخرج من البيت الأبيض.
قيل أيضا، إن قادة الصهيونية فى أمريكا وقادة إسرائيل يتوجسون شرا من مستقبل يخسر فيه اليهود الأمريكيون مواقعهم المتميزة ونفوذهم تحت ضغط التحولات الاقتصادية والاجتماعية التى تشهدها الولايات المتحدة. وأنه من الضرورى أن تواصل القوى الصهيونية ضغطها لتأكيد وجودها والتذكير بنفوذها وبخاصة فى الكونجرس.
أعتقد أن إسرائيل مثل الصين، لا ترحب بتداعيات نقل ثورة العلاقات الدولية من أوروبا والأطلسى إلى المحيط الهادى وشرق آسيا. تعرف أن علاقات أمريكا بحلفائها سوف تتأثر حتما بانتقال الاهتمام إلى موقع مختلف. لا يجادل أحد الآن فى أن العلاقات الراهنة بين أمريكا وأوروبا تختلف عما كانت عليه قبل ثلاث سنوات، رغم أن انتقال التركيز الاستراتيجى الأمريكى فى اتجاه الباسيفيكى، لم يكتمل فى شكل ملموس. وأظن أن إسرائيل مدركة أن تحالفها مع أمريكا، مهما صدر عن أوباما وغيره من تأكيدات باستمراره وتعزيزه، مصيره أن يضعف بحكم تغير أولويات الالتزامات الاستراتيجية الأمريكية.
أتصور أن الإسرائيليين يدركون أن تحولا مهما يحدث الآن فى عقيدة الدفاع الأمريكية وحجم موازنات الإنفاق العسكرى للسنوات العشر المقبلة، وقد ظهرت بوادر هذا التحول بالفعل فى العلاقات داخل حلف الأطلسى، وظهرت بشكل أهم فى الدور الذى تلعبه المؤسسة العسكرية فى التأثير على سياسة أوباما الخارجية، وبوجه خاص فى موضوع العلاقات مع إيران والموقف من الحملة اليهودية العالمية لتعبئة الرأى العام الأمريكى والدولى وراء خطة شن حرب ضد إيران.
●●●
يعلق الكاتب المرموق نعوم شومسكى على هذا الموضوع قائلا: إن كثيرين فى واشنطن يتحدثون الآن عن التهديد الذى تمثله إسرائيل للأمن الأمريكى. ويؤكد ما تردد مؤخرا من أن الخطاب الإسرائيلى عن الحرب وضرورة مشاركة أمريكا فيها يهدف إلى إحباط مسيرة الانتعاش الاقتصادى التى يأمل أوباما فى استمرارها متصاعدة حتى نوفمبر القادم. بمعنى آخر تريد جماعات الضغط الصهيونى الإساءة إلى أوباما عن طريق الإضرار بالاقتصاد الأمريكى. ويؤكد من ناحية أخرى رفض المؤسسة العسكرية الأمريكية الدخول فى أى حرب خارجية فى الوقت الحاضر. ويشير تشومسكى إشارة ذات مغزى حين يقول إن عبارة السلام فى الشرق الأوسط، أى السلام مع الفلسطينيين والعرب عموما، لم يأت ذكرها خلال المقابلة التى جرت فى البيت الأبيض بين أوباما ونتنياهو، بما يعنى أن الحرب على إيران غطت على القضية الفلسطينية وأن الأحوال العربية الراهنة لا تقلق مشاريع التوسع الإسرائيلية وتحرم أوباما من ورقة ضغط على إسرائيل.
●●●
أتفق مع تشومسكى وعدد يتزايد من المفكرين الأمريكيين على القول بأن الوعى بخطورة الضغوط الإسرائيلية على أمن وسلامة أمريكا يتصاعد. لقد اعتمد الإسرائيليون وأنصارهم فى أمريكا لعقود عديدة على مبدأ تطابق المصالح الأمريكية والإسرائيلية، وأن أمريكا تستطيع أن تتحمل أى تكلفة وإن باهظة للاستمرار فى تنفيذ التزامها المحافظة على أمن إسرائيل حسب تعريف حكام إسرائيل لهذا الأمن وليس كما يعرفه الآن جنرالات أمريكا.
لم يعد محظورا التصريح بأن المصالح بخاصة فى الموضوع الإيرانى لا تتطابق. هناك أفغانستان التى سترحل عنها معظم القوات الأمريكية بعد شهور معدودة وتتركها ساحة مفتوحة لقوى ودول كثيرة، بينها إيران. لن ينفع أمريكا القول الإسرائيلى بأن سياستها فى وسط آسيا أمنت لها أذربيجان لتحل محل تركيا كنقطة عبور إلى إيران وأفغانستان. وهناك ضرورة الخروج من الأزمة الاقتصادية فى أمريكا ودول الغرب الأخرى، وهو الخروج الذى يمكن أن تعطله زيادة أسعار النفط. هناك أيضا عدم التطابق فى الرؤية حول مستقبل الحالة الثورية فى المنطقة العربية وفى التعامل مع عالم عربى تحكمه تيارات إسلامية متنافرة المواقف من إسرائيل والدول ذات الأنظمة الحليفة لأمريكا.
●●●
توقعت قبل أعوام قليلة أن ينجح البيت الأبيض فى تخفيف قبضة الصهيونية على مفاصل مهمة فى عملية صنع السياسة الخارجية الأمريكية، وتمنيت لو بذل العرب جهدا مناسبا مساهمة فى تحرير بعض هذه المفاصل. يبدو أن التخفيف واقع وإن ببطء وتدرج وبدون تدخل عربى مخطط.