السودان.. وتراكم الأحزان - مصطفى الفقي - بوابة الشروق
الثلاثاء 15 يوليه 2025 12:46 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما هي توقعاتك لمصير وسام أبو علي في المرحلة المقبلة؟

السودان.. وتراكم الأحزان

نشر فى : الإثنين 14 يوليه 2025 - 8:00 م | آخر تحديث : الإثنين 14 يوليه 2025 - 8:00 م

فى غمار أحداث كارثة غزة منذ أكتوبر 2023 تراجعت مأساة السودان عن تصدر المشهد وأضحت فى مرتبة ثانية وربما ثالثة سياسيًا وإعلاميًا، وتصور الكثيرون أن ما يجرى فى السودان هو موروث قديم فى واحد من أكبر الأقطار العربية والإفريقية على الإطلاق، وفى دولة كبيرة هى مستودع لتراث تاريخى طويل من العلاقات العربية والإفريقية بل والجوار الإسلامى المسيحى أيضًا.

 


المتأمل لنشرات الأخبار سوف يجد أن أحداث غزة قد نالت نصيب الأسد، ولا بأس فى ذلك فهى مأساة تدمى القلوب وتمزق الأكباد وتضعنا جميعًا دون استثناء أمام مسئولية تاريخية لا يمكن تجاهلها أو الخلاص منها، لكن معاناة السودانيين وأنين أصواتهم لاجئين ومهجرين ونازحين تثير الأسى أيضًا وتدفع بالعرب والأفارقة فى اتجاهات شتى، حيث انقسمت الدولة السودانية على نفسها وأشهر المتمردون فيها السلاح فى وجه شرعية الدولة وسلطتها المرعية، وتبادلت الأطراف قتالاً عنيفًا ومعارك متتالية سقط فيها عشرات الآلاف من القتلى وجرى تخريب المدن واجتياح القرى، وبرزت جريمة اغتصاب النساء كعلامة مخزية فى تاريخ السودان ذلك الشعب الباسل العظيم بتراثه الدينى وطوائفه الاجتماعية وفرقه المذهبية.
وقد شاهدت على شاشات التلفاز من السودان دموع النساء وجراح الأطفال وأنين كبار السن فى ظل حروب المدن وتبادل إسقاطها بين الطرفين، الجيش الشرعى من جانب وقوات الدعم السريع فى جانب آخر، والأخيرة مدعومة من دول أخرى. وحين يراجع المرء نفسه عربيًا وإفريقيًا وإسلاميًا فإنه يكتشف أن ذلك البلد الكبير نعتبره المعبر التاريخى للعروبة والإسلام إلى قارة أفريقيا التى تمثل ضمير البشرية الباقى ورمزها الصامد رغم ما مرت به من محن وخطوب وكوارث، كما أن إسهامات السودان الدولة والشعب فى القضايا العربية مشهودة وموثقة، فهو الشعب الذى خرج يستقبل الرئيس عبد الناصر والملك فيصل فى أغسطس 1967مزيلاً الجراح المعنوية للنكسة وجامعًا كلمة العرب فى العاصمة السودانية الخرطوم، فعروبة السودان تستحق منّا كل الاهتمام وتستوجب كافة أنواع التكريم، وعندما خرج السودان من عباءة الدولة المصرية السودانية ونال استقلاله فى أول يناير 1956 أصبحنا أمام قوة عربية وإفريقية مضافة تستحق الإشادة فى كل حال، لكن تعاقبت على السودان دورات من الحكم الديمقراطى تارة والحكم الفردى تارة أخرى، وتأرجحت سياساته بين الانتمائين العربى والإفريقى وحافظت دائمًا على روحها القومية وهويتها المتميزة، ثم برزت أسماء على المسرح السودانى فى الحقبة الديمقراطية، مثل «الصادق المهدى» رحمه الله ومولانا «المرغنى»، حيث ظلت الأحزاب التقليدية ذات تأثير على الساحة السودانية وإن لم يطل العهد بها، وتتابعت بعدها أسماء مثل «عبدالله خليل» و«إبراهيم عبود» كقيادات لامعة فى سماء السودان بعد «إسماعيل الأزهرى» ومحمد أحمد محجوب، وغيرهم من الأسماء المعروفة عربيًا وإفريقيًا، ولقد كان التمرد المدنى السودانى فى 21 أكتوبر 1964 ضد حكم عبود نموذجًا يشير بوضوح إلى الحس الديمقراطى لدى ذلك الشعب الأصيل، وفى غفلة من الزمن قفز إلى السلطة نفر من أصحاب التوجهات التى طرأت على المشهد السودانى فكان عصر «عمر البشير» هو عصر المولد الحقيقى للنزاعات الطائفية فى ظل حكم الجبهة الإسلامية الذى اندلعت فى إطاره أحداث دارفور مع مطلع هذا القرن، فكان ظهور ما سمى بـ«الجنجويد»، وهى مجموعة الخوارج ممن يتخذون العنف أسلوبًا لقمع الفئات الأخرى من حولهم.
وقد تحولت قوة الجنجويد بعد ذلك إلى ما أطلق عليه نظام البشير «قوات الدعم السريع» بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتى) فتحولت المواجهة إلى صراع دموى لم يعرف السودان له نظيرًا من قبل، فسالت الدماء وتقطعت الأوصال، وأصبحنا أمام مشهد مؤلم لأكبر الدولة العربية مساحة وأكثر الدول الأفريقية تأثيرًا محوريًا فى الشمال الشرقى للقارة، وزحف مئات الألوف من اللاجئين إلى دول الجوار هربًا من قصف المدافع وطلقات الرصاص والملاحقات المتواصلة للمدنيين الأبرياء، وشاعت جرائم القتل والخطف والاغتصاب بصورة هزت الضمير العالمى وحركت المشاعر الإنسانية فى كثير من بقاع الدنيا وأنحاء العالم.
وقد بلغت المأساة ذروتها لأن العرب وبعض الأفارقة مشغولين فى مأساة غزة وكارثة شعبها الأبى المناضل، فاستثمر الانفصاليون والخوارج ذلك الموقف من أجل الاستمرار فى مزيد من الجرائم وشلالات الدم فى ظل لظروف معيشية مؤلمة وأوضاع حياتية قاسية، وهنا يحسن بنا أن نشير إلى الحقائق الآتية:
أولاً: إن الشعب السودانى رفيع الحس عميق الوجدان فهو شعب الثقافة والأدب والشعر، وهو شعب المواقف التى تستحق التقدير أثناء الأزمات القومية والمصائب الإقليمية، فهى الدولة التى استقبلت طلاب الدفعات العسكرية من القاهرة بعد هزيمة 1967 وانتقال الطلاب الدارسين من مصر إلى جبل الأولياء فى السودان، وهى أيضًا الدولة التى شاركت بفاعلية فى كل الأحداث القومية وانفعل شعبها بكل القضايا الإسلامية والعربية وظل دائمَا حائط صد فى مواجهة المؤامرات والفتن، وعندما اندلعت الحرب بين شماله وجنوبه قبل التقسيم فإن الكل يشهد أن الشعور العام لم يكن عنصريًا دينيًا لكنه كان سياسيًا قبليًا، ولقد أتاحت لى فرصة العمل كسكرتير سياسى للرئيس المصرى الراحل مبارك أن أستمع مباشرة من «جون قرنق» قائد حركة التمرد فى الجنوب قوله إنه يسعى إلى نشر تعليم اللغة العربية وتأصيل دراستها فى ولايات الجنوب السودانى دون إكراه فى الدين أو ضغط على العقيدة، مضيفًا أنه يتطلع شخصيًا إلى إتاحة الفرصة له ولمواطنيه فى الجنوب أن يكونوا مرشحين لرئاسة السودان الموحد بشماله وجنوبه دون تفرقة أو تمييز، فالوعى الوطنى السودانى لم يكن غائبًا فى أى من فترات تاريخه الطويل.
ثانيًا: إن الجيش السودانى واحد من أقدم وأهم الجيوش الإفريقية وأكبرها لذلك ظل رافدًا لوحدة الدولة وسلامة مقاصدها، ولم يكن أبدًا أداة لقوى خارجية تعبث بالداخل أو تسعى لتمزيق وحدته، وقد أفرز عددًا من القيادات التاريخية التى لا تنسى فى مقدمتها المشير «سوار الذهب» الذى رفض الاستمرار فى السلطة وآثر أن يكون ابنًا بارًا للسودان وشعبها الأصيل، ومارس دوره بعد ذلك فى أعمال الإغاثة على المستويين الدولى والإقليمى بشكل يثير الإعجاب ويستحق التقدير، لذلك يظل «عبدالرحمن سوار الذهب» نموذجًا مشرقًا فى التاريخ الإفريقى والعربى على السواء.
ثالثًا: يواجه السودان اليوم على حدوده مصادر للقلق، فموقعه الجغرافى فى حوض النيل وشرق إفريقيا يجعله طرفًا فى كثير من صراعات تلك المنطقة وما أكثرها، ولقد انفتحت شهية الأتراك للسودان وسعت حكومة أردوغان منذ سنوات قليلة إلى الحصول على قاعدة عسكرية فى (سواكن) شرقى البلاد، وظل السودان دائمًا مهمومًا بحدوده الملتهبة وعلاقاته المختلفة ومشكلاته الصعبة، ومع ذلك بقى وفيًا لقضاياه العربية والإفريقية والإسلامية على الدوام. وقد تحول السودان فى السنوات الأخيرة عن التقسيمات التقليدية ذات الطابع السياسى والدينى بين الختمية والأنصار إلى نموذج دولة تسعى للديمقراطية دائمًا وتصل إليها أحيانًا.
إن جراح السودان التى تنزف تستحق منّا نحن العرب أقصى درجات الانتباه والتعاطف، كما أن مشكلاتها التقليدية، ومنها ما يتصل بسد النهضة باعتبارها مشكلة مشتركة بين مصر وإثيوبيا والسودان، هى كلها صفحات شائكة فى ملف السودان المتحد الذى حان الوقت أن يتعافى من أوجاعه وأن تعود دولته المركزية الشرعية الموحدة إلى ممارسة دورها الوطنى الذى لا بديل عنه.

 

نقلًا عن إندبندنت عربية

التعليقات