في مايو الماضي فازت وكالة رويترز بجائزة بوليتزر، أهم جوائز الصحافة الأمريكية، بفرع صور الأخبار العاجلة عن "الصور المؤلمة التي بثتها من غزة خلال عام 2024" حيث التقط فريق مصوريها مئات اللقطات المعبرة عن حجم الخراب والموت جرّاء العدوان الإسرائيلي الغاشم.
وقتها تباهت رئيسة تحرير الوكالة أليساندرا جالوني بالجائزة "التي تعكس بعضًا من أعظم نقاط القوة لدى رويترز، وهي التغطية العاجلة الماهرة والواقعية للأحداث العالمية وقت حدوثها، لخدمة جمهورنا العالمي والمصلحة العامة" واعترفت بأن العديد من المصورين خاطروا بحياتهم وفقدوا منازلهم وأصدقاءهم وأقاربهم.
أحد أعضاء الفريق الفائز من رويترز كان أنس الشريف، المراسل الشهير عبر حساباته الشخصية وشاشة الجزيرة، الذي استُشهد في 10 أغسطس الجاري على إثر قصف إسرائيلي عمدي لخيمة للإعلاميين في محيط مجمع الشفاء أودى بحياته مع ثلاثة من زملائه. وبعد ساعات نشرت رويترز تقريرًا عن أنس، يعرض إدانة الجزيرة للحدث ويبرز أيضًا بيان جيش الاحتلال الذي زعم أن أنس كان "إرهابيًا حمساويًأ".
هذه المفارقة دفعت المراسلة الكندرية فاليري زينك لاتخاذ قرار ضميري يوم الثلاثاء الماضي، بالاستقالة من رويترز، ببيان بليغ انتقدت فيه تعامل المؤسسات الإعلامية الكبرى مع واقع الإبادة في غزة، بسياسةٍ داعمةٍ للاحتلال وممارساته الممنهجة، والادعاء بأن تغطياتها تتسم بالتوازن، تمامًا كالتقرير الذي نشرته رويترز عن مصورها السابق.
تجاوز عدد شهداء الصحافة في حرب الإبادة الحالية 245 أكثر من أي ضحايا في تغطية المنازعات تاريخيًأ. أتذكر منذ شهور كيف كان بعض مرددي الدعاية الصهيونية يقللون من فداحة العدد، زاعمين بتبجّح أن معظم قائمة الشهداء شبابٌ كانوا ينقلون الأحداث عبر حساباتهم الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي، أو متعاملون من الباطن مع الوكالات والقنوات والصحف الغربية. لكن صواريخ الاحتلال فضحت بؤسَهم باستهداف مراسلي ومصوري كبرى المؤسسات الإعلامية العالمية والإقليمية، وآخرهم مصور لأسوشيتدبرس ومصورة لإندبندنت العربية.
يرى الاحتلال أن ارتكاب تلك الجرائم على الهواء مباشرة كما حدث في مجمع ناصر الطبي الاثنين الماضي -على جسامتها وما قد يترتب عليها من ملاحقات قضائية في الدول الحرة- أهون وأخف ضررًا من استمرار التغطية لتوثق تنوع فنون الإبادة بين التجويع والقصف العشوائي والاستهداف على طريقة الألعاب الإلكترونية.
قضى شهداء الصحافة في غزة نحبهم بعدما صدقوا ما عاهدوا عليه الله وضميرهم والرأي العام، فلا أدلّ من خطورة العدسة والقلم من الاستهداف الممنهج لخيام الصحفيين وأثناء ممارسة مهامهم، ولا ننسى اغتيال حسن اصليح على سريره داخل المستشفى في 13 مايو الماضي، ولا الصحفي أحمد منصور الذي حُرق حيًا على رؤوس الأشهاد مساء 7 أبريل الماضي.
هذا من جانب رسالي. أما من الجانب الآخر، المهني، فقد ساهم الشهداء في تغذية وسائل الإعلام بالمواد المصورة والمكتوبة التي تضمن لها النجاح وتحقيق الأرباح، خاصة وأن الاحتلال يمنع دخول الصحفيين الأجانب، ليصبح المراسلون والمصورون الفلسطينيون بمنزلة القلب الذي يضخ الدماء في شرايين المشهد الإعلامي الدولي.
لكن ما يحدث أن تلك المؤسسات تقدم الصحفيين ضحايا في مذبح الحقيقة.
الحد الأدنى من التأمين غير متوفر بالطبع تحت نير سلطة إبادة مُطلقة. والشهادات تتواتر عن سوء المعاملة المادية وضعف المردود والتنكر للتعاقدات وعدم مراعاة الأسر المكلومة بعد استشهاد المراسل أو المصور.. هذا بالنسبة لمعظم المؤسسات العالمية والإقليمية.
الأهم أن سرديات القاتل الإسرائيلي تلقى رواجًا واسعًا من خلال تلك المؤسسات. ليس فقط بإفساح المجال لها في مواجهة ما تلتقطه عدسات مصوريها، بدعوى التوازن! بل أيضًا بنشر التشكيك في البيانات الصادرة من المستشفيات في غزة، وبتهميش المواقف المهمة من المنظمات الأممية الدولية، وبضعف التغطية –إلى حد الانعدام- للعديد من الفعاليات التضامنية حول العالم وعلى رأسها أنشطة مجموعة لاهاي لتطبيق القانون الدولي على إسرائيل، والمعالجات المبتسرة لقرارات محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، وتجاهل أحداث تغطيها الصحافة العبرية وتكشف أقبح وجوه الصهيونية كاستطلاعات الرأي والمظاهرات التي تؤكد اتساع موجة الكراهية وتأييد الإبادة تحت شعار "لا أبرياء في غزة".
أثبتت الأحداث أن استقلال تلك المؤسسات وهمٌ محض. ففي عالم مثالي، حيث الصحافة مهنة رسالية من أجل الإنسانية، كان الحد الأدنى مقاطعة نشر سرديات الاحتلال ليختنق بها اللوبي الصهيوني، أو توجيه السياسة التحريرية إلى تفنيدها ومناطحتها بمنهج مهني سليم.
أما التعامل الاستهلاكي مع المأساة بتصوير الدماء والدموع ثم تبني مبررات المجرم ومنطقه بحجة الموضوعية، فهو نخاسةٌ إعلامية، واستثمارٌ في الإبادة.