فى غمار المشاحنات السياسية وحالة التعبئة الحماسية عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعى، نسينا أن فتح الشوارع حول السفارة البريطانية واجب دستورى وقانونى بالدرجة الأولى، وكذلك باقى السفارات المحاطة بالحواجز الخرسانية المعطلة لأرزاق المواطنين ولحركة المرور.
لم يكن الشعب المصرى راضيًا فى أى مرحلة عن قرار إحاطة تلك السفارات بسياج أمنى من نوع خاص، لا نشهده حول السفارات المصرية فى أى دولة، ولا تتمتع به السفارات عمومًا فى عواصم العالم. وخلال 22 عامًا قُطّعت أوصال حى جاردن سيتى بغلق الشوارع المؤدية إلى السفارتين الأمريكية والبريطانية، وتضرر كثير من السكان وأصحاب المحال التجارية، ولم يتوقف غضبهم عند التصريحات الإعلامية فى برامج «التوك شو» والصحف قبل ثورة يناير 2011 وبعدها، بل وصل الأمر إلى ساحات القضاء وصدرت فيه مبادئ تاريخية، أصرّت الحكومات المتعاقبة على مخالفتها.
عندما أزيلت الحواجز حول السفارة البريطانية الجمعة الماضية، قلت: «الله يرحمهم أو يمسيهم بالخير» أولئك المواطنين أصحاب المحال التجارية بالمنطقة الذين طرقوا كل الأبواب منذ وقت غزو العراق عام 2003 ثم أقاموا عام 2009 دعوى أمام القضاء الإدارى لإعادة فتح الشوارع وإزالة جميع العوائق المرورية.
فى البداية لم تقبل المحكمة الدعوى بحجة أنها لم تستوف إجراءات التظلم أمام لجان فض المنازعات. فتظلموا وأقاموها من جديد، وتقدموا بدلائل على ما يتكبدونه من تكاليف باهظة، واضطرارهم إلى تسريح العمالة، فضلًا عن تلف البضائع الراكدة.
قدمت الحكومة دفاعها نيابة عن أربع جهات: وزارات الداخلية والخارجية والحكم المحلى ومحافظة القاهرة، وساقت العديد من الدفوع ذات الصبغة الأمنية والسياسية، لكن المحكمة تصدت للمسألة من جانب مبدئى، فالشارع مالٌ عام مخصص للمنفعة العامة، واستعمال الكافة للطرق العامة «يمثل مظهرًا من مظاهر المساواة بين المواطنين، ويكفل ممارسة حق التنقل والمرور الميسر إلى ما يبتغيه من أمكنة لتحقيق مآربه وأداء عمله» وهذا حق دستورى من حقوق الإنسان الأساسية.
نعم.. من حق الدولة تنظيم الحق لاعتبارات تتعلق بالأمن والصحة والسكينة العامة، لكن هذا الاختصاص ــ بحسب حيثيات الحكم ــ ليس حرًا طليقًا من كل قيد، بل يخضع للرقابة القضائية «حمايةً لحقوق الأفراد وحرياتهم من ناحية، وتمكينًا للدولة بأجهزتها المختلفة من ممارسة دورها واستهداف المصلحة العامة من ناحية أخرى».
ومن هذه الزاوية اعتبرت المحكمة غلق الشوارع حول السفارتين الأمريكية والبريطانية إجراء غير دستورى فلا يجوز «كف يد الدولة عن مكان ما لمصلحة جهة ما دون سند، يعتبر مظهرا من مظاهر التخلى عن سيادة الدولة وسيطرتها على هذا الجزء من الإقليم، وهو أمر غير جائز، ويتنافى مع التزامها الدستورى بالمحافظة على الأملاك العامة لمصلحة المواطنين جميعًا».
ولم تقبل المحكمة الزعم بأن الحالة الأمنية تستدعى ذلك «حيث يمكن مواجهتها بأساليب الحماية الأمنية العادية دون وضع العراقيل التى تحول دون استخدام هذه الأماكن والشوارع، وهى من المرافق العامة، فيما خصصت من أجله وبما ييسر للمدعين وغيرهم سواء القاطنون أو المارة أو من لهم مصلحة تجارة أو مصدر رزق».
صدر الحكم فى الشق المستعجل لصالح جيران السفارتين الأمريكية والبريطانية، فى يوليو 2011، ثم صدر حكم بالحيثيات ذاتها فى الشق الموضوعى فى أكتوبر 2015، واستمرت الحكومة رافضة للتنفيذ، وطعنت واستشكلت لوقف آثار الحكم، فصدر حكم ثالث فى مارس 2016 برفض الاستشكال وصف دفوع الحكومة بأنها «لا تمثل وقائع جديدة ولا عقبة من عقبات التنفيذ، بل تنطوى على مجادلة فى الأسباب بغير الوسيلة المقررة قانونا».
وبالمخالفة للمادة 190 من الدستور ولمبادئ المحكمة الدستورية العليا رفعت الحكومة إشكالًا أمام محكم الأمور المستعجلة لوقف الأحكام الصادرة من مجلس الدولة، وصدر لصالحها، واتخذته سندًا لعدم التنفيذ!
القصة مؤلمة. فقد وقعت أضرار من المستحيل جبرُها، وأُهدرت أحكام القضاء لسنوات، وحتى عندما أزيلت الحواجز من حول سفارة واحدة كان السبب ظرفًا سياسيًا، ربما يكون مؤقتًا أو تطرأ عليه تغيرات، وليس التزامًا بالحقوق الدستورية لجيران السفارة ولا امتثالًا لحجية الأحكام.
والأحداث الأخيرة التى أحاطت بالسفارات المصرية فى الخارج يجب أن تدفع للاعتصام بتلك الأحكام، وإعادة النظر فى جميع الإجراءات الاستثنائية حول باقى السفارات فى جاردن سيتى والزمالك والمعادى وأى موقع آخر، من شأنها تقييد حرية التنقل والتعسف مع السكان والمارة والتضييق على مصالحهم من جانب، ومن جانب آخر منح دول بعينها مزايا غير مسبوقة خروجا عن قاعدة المعاملة بالمثل.
ورغم كل شىء.. مبروك لهؤلاء وورثتهم وجيرانهم: فرج خضرى، محمود طارق، بهية خضر، هانى الجابرى، نصر سليمان، كمال الدين محمود.. أصحاب دعوى فتح شوارع جاردن سيتى.