مع إعلان جامعة الدول العربية الحرب على إسرائيل لتحرير الأراضى الفلسطينية، اندلعت الحرب الأولى بين العرب وإسرائيل لتستمر لمدة عشرة أشهر تقريبا (مايو ١٩٤٨-مارس ١٩٤٩). كان الهدف العربى المعلن واضحا ومباشرا، وهو تحرير كل الأراضى الفلسطينية كونها أراض عربية خالصة، لكن غير المعلن كان أن قيادات الدول العربية - وتحديدا الملك عبدالله الأول فى الأردن والملك فاروق فى مصر - كانوا يعلمون أن هذا الهدف ربما لن يتحقق وأن ما يمكن تحقيقه على الأرض هو كسب المزيد من الأراضى للجانب العربى (الفلسطينى) لتحسين أى وضع تفاوضى مستقبلى مع إسرائيل عبر الأمم المتحدة.
كذلك فقد كانت هناك محادثات سرية تتم بين الملك عبدالله الأول والوكالة اليهودية. تشير فحوى هذه المحادثات إلى أنه كان يتحسب بالفعل لانتصار محتمل للجيوش اليهودية التى استعمرت فلسطين التاريخية حتى من قبل أن يكون هناك حرب رسمية بين العرب وإسرائيل! تشير أيضا بعض المصادر الأكاديمية إلى وجود تنافس خفى بين الملك عبدالله الأول وبين الملك فاروق حيث كان يخشى الأخير من تلاشى زعامة المملكة المصرية فى العالم العربى فى حالة وجود أى تقدم فى مسألة القضية الفلسطينية - سواء عن طريق الحرب أو التفاوض - نتيجة لجهود منفردة من الملك عبدالله الأول!
• • •
على أى حال، هناك تباين كبير فى التقديرات حول الأسلحة والمعدات والأفراد فى كلا الجانبين (العربى والإسرائيلى) عشية دخولهم الحرب. ورغم أنه من غير الممكن عمليا الوصول إلى تقدير دقيق لهذه المعلومات إلا أنه يمكن الوصول إلى بعض المؤشرات الأولية، منها أن الجيش الإسرائيلى (رسميا يعرف باسم جيش الدفاع) والذى تكون من خلال دمج الميليشيات والعصابات المسلحة التى شكلها المستوطنون، مثل الهاجاناه وبلماخ وليحى وإرجون وغيرها، كان يقدر عدده بين ٥٥ و٦٠ ألف مقاتل بما فى ذلك قوات الاحتياط، وقوات الأمن الداخلى فى المستوطنات وقد زاد عدد هذه القوات ليصل إلى حوالى ١٠٠ ألف أثناء القتال. كانت معظم أسلحة الجيش الإسرائيلى قد تم الحصول عليها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتحديدا من تشيكوسلوفاكيا.
أما الجيش العربى فكانت تقدر قواته بحوالى ٢٥ ألف مقاتل مع بداية الحرب، كانت تنتمى هذه القوات إلى مصر والأردن وسوريا وفلسطين والعراق، لكن بعض التقديرات تذهب إلى أنه مع تطور العمليات العسكرية فى الحرب وصلت القوات إلى حوالى ٦٠ ألف مقاتل، خصوصا مع إرسال دول أخرى متطوعة مثل اليمن والمملكة العربية السعودية.
• • •
خلال عشرة أشهر من القتال، كان هناك العشرات من المعارك بالإضافة إلى هدنتين أشرفت عليهما الأمم المتحدة، الهدنة الأولى كانت قصيرة نسبيا بين ١١ يونيو و٨ يوليو ١٩٤٨. خلال هذه الهدنة فرضت الأمم المتحدة حظرا على نقل السلاح إلى الطرفين المتحاربين، لكن رغم ذلك تمكن الجيش الإسرائيلى من الحصول على المزيد من الأسلحة من تشيكوسلوفاكيا والتى يعتقد أن كان لها دور كبير فى انتصاره لاحقا. خلال أيام الهدنة القصيرة تم تعيين الدبلوماسى السويدى، الكونت فولك برنادوت، كمراقب ووسيط حتى يمثل الأمم المتحدة أمام الطرفين المتحاربين، ليصل برنادوت ومعه قوات مراقبة شكلتها الأمم المتحدة من دول الولايات المتحدة، وفرنسا، وبلجيكا، والسويد، بالإضافة للإشراف على الهدنة. كانت مهمة اللجنة الأممية تتمثل فى الحفاظ على المقدسات، وعلى توفير الاحتياجات الضرورية من ماء وغذاء ورعاية طبية للسكان المدنيين، وقد رصدت لجنة المراقبين انتهاكات لشروط الهدنة من الطرفين، ولا سيما الطرف الإسرائيلى الذى أخذ يزود نفسه بالسلاح. انتهت هذه الهدنة بمجرد انتهاء الأسابيع الأربعة التى حددتها الأمم المتحدة ليتجدد القتال بين الطرفين.
أما الهدنة الثانية فقد جاءت سريعا بعد انتهاء الهدنة الأولى حيث بدأت فى ١٨ يوليو وانتهت فى ١٥ أكتوبر عام ١٩٤٨، أى أنها استمرت لثلاثة أشهر تقريبا. خلال هذه الهدنة لم تكتف الأمم المتحدة بالمراقبة، ولكن عبر وسيطها الكونت برنادوت قامت باقتراح خطة جديدة للتقسيم، ووفقا لهذه الخطة فإن صحراء النقب سيتم تقسيمها بين مصر والأردن مع حصول الأخيرة على مدينتى اللد والرملة وعلى أن تكون الدولة اليهودية فى منطقة الجليل مع حدود ممتدة من الفلوجة حتى الرملة واللد، كذلك يكون لمدينة القدس وضع خاص كمدينة تتمتع بالحكم الذاتى وذات رقابة دولية، وعلى أن يكون مطار اللد وميناء حيفا متاحين لكلتا الدولتين.
قضت الخطة أيضا بحق اللاجئات واللاجئين الفلسطينيين فى العودة إلى ديارهم، وأن من يختار عدم العودة منهم يتم تعويضه عن ممتلكاته! كما قضت الخطة أخيرا بأن تشرف الأمم المتحدة على الهجرة اليهودية إلى إسرائيل.
• • •
رفض الطرفان المتحاربان الهدنة، وفى ١٧ سبتمبر من عام ١٩٤٨ قامت جماعة ليحى الصهيونية (تعرف أيضا باسم شتيرن) بالهجوم المسلح على موكب برنادوت لتقتله فى الحال ومعه أحد المراقبين الفرنسيين، ثم قامت الأمم المتحدة بتعيين نائبه الأمريكى، رالف بنش، ممثلا لها. لم تستمر مهمة بنش كثيرا، فقد انهارت الهدنة سريعا بعد أقل من ثلاثة أسابيع على تعيينه، ليعود بنش إلى الولايات المتحدة ويحصل على جائزة نوبل للسلام فى عام ١٩٥٠، كأول أمريكى من أصل إفريقى يحصل عليها نتيجة لوساطته هذه!
• • •
تم استئناف الحرب بعد ذلك حتى صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم ١٩٤ فى ١١ ديسمبر من عام ١٩٤٨ الذى وضع أسسا جديدة لإنهاء الحرب العربية الإسرائيلية على أساس حل الدولتين مع إعادة التأكيد على حق اللاجئين الفلسطينيين فى العودة، وهو الحق الذى – كما نعلم - لم يتم تنفيذه أبدا! لكن على أى حال كان القرار ١٩٤ هو حجر الأساس لاحقا لإنشاء وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) وفقا لقرار الجمعية العامة رقم ٣٠٢ والذى صدر فى ديسمبر عام ١٩٤٩.
وافق على القرار رقم ١٩٤ ٣٥ دولة، وعارضته ١٥ دولة (بينها الدول العربية الست الأعضاء فى الأمم المتحدة فى هذا التوقيت)، بينما امتنعت ثمانى دول عن التصويت. لم ينجح القرار فى تغيير المعطيات على الأرض، فمع صدوره كانت القوات الإسرائيلية فى وضع أفضل بكثير من نظيرتها العربية حيث استولت على أراض أكبر بكثير من تلك التى كانت ممنوحة لها وفقا لخطط التقسيم الأممية، لتستمر الحرب وسط هزائم متتالية للجيوش العربية حتى تم توقيع هدنة جديدة بين إسرائيل والدول العربية المتحاربة (تحديدا مصر والأردن وسوريا ولبنان) لتنتهى الحرب ويتم رسم الخط الأخضر الذى يفصل بين القوات الإسرائيلية وبين القوات العربية وتصبح غزة تحت إدارة مصر، بينما تحصل الأردن على إدارة الضفة الغربية بما فيها مدينة القدس الشرقية ليستمر هذا الوضع حتى يونيو عام ١٩٦٧.
• • •
كانت خسارة الجيوش العربية هى بداية التمكين الحقيقى للدولة الإسرائيلية وحصولها على تقدير بعض أعضاء المجتمع الدولى من قادة ودول. لم تكن خسائر العرب فقط فى المعدات العسكرية والأراضى التى خسرتها، ولكن كانت أيضا فى تهجير أكثر من ٧٠٠ ألف فلسطينى وفلسطينية من قراهم ومدنهم، وهى الأزمة التى استمرت منذ تلك اللحظة وحتى الآن!
•••
ملحوظة تم الاعتماد فى بعض فقرات هذا المقال على المرجعين التاليين:
• كتاب بعنوان «١٩٤٨: تاريخ الحرب الأولى بين العرب وإسرائيل» للمؤلف «بنى مورس» وهو من إصدار جامعة ييل عام ٢٠٠٨.
• كتاب «سياسات التقسيم: الملك عبدالله، الصهاينة، وفلسطين ١٩٢١-١٩٥١» للمؤلف «أفى شلايم» من إصدار جامعة أوكسفورد ١٩٩٨.
أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر