حينما غاب أمثال شوقى وحافظ وأحمد محرم ومحمود حسن إسماعيل عن دنيا الشعر لم يعد هناك شعر ولا شعراء يشعر الناس بوجودهم ويلهبون حماسة الشعب المصرى نحو قضايا الأمة الكبرى ومصالحها العظمى.
وحينما غاب علماء الإسلام العظام الذين علموا الناس الدين الحق أمثال محمد عبده والمراغى والغزالى والشعراوى وجاد الحق وطه جابر العلوانى، وقع الناس فى الإفراط أو التفريط، والغلو أو التقصير، والوقوع فى التطرف الدينى أو العلمانى، والتكفير والتفجير أو الإلحاد والتحلل.
وحينما غاب رموز الوطنية الحقة أمثال عرابى وسعد زغلول ومصطفى كامل والبارودى ومصطفى النحاس، خرجت أجيال مضللة تريد أن تستبد وتظلم وتقهر وتكسب الحرام باسم الوطنية الزائفة واحتكار الحقيقة.
وحينما غاب أمثال عرابى والبارودى ومصطفى كامل ومحمد فريد وغيرهم ممن جمعوا بين الوطنية والإسلام جمعا صحيحا خرج أناس يفصلون بين الإسلام والوطنية، وبعضهم يريد أن يقصى خصومه السياسيين باسم الإسلام، وآخرون يقهرون ويسجنون خصومهم باسم الوطنية.
وحينما غاب عن الحياة العلماء الأفذاذ مثل مصطفى مشرفة، محمود حافظ، حامد جوهر، وغاب عن الوطن أمثال زويل تأخرت العلوم فى مصر ولم تظهر النوابغ العالمية التى كانت تفخر بها مصر.
وحينما غابت رموز الوحدة الوطنية المصرية الرائدة مثل مكرم عبيد، واصف غالى، فخرى عبدالنور، القمص سرجيوس، النديم، سعد زغلول، الباقورى.. احترق الوطن بالفتن الطائفية وحرقت الكنائس واشتعل الصراع الطائفى دون مبررات حقيقية، وغابت البوصلة عن الطرفين، واحترقت الأفئدة والنفوس قبل الحرائق وبعدها.
وحينما اختفى رواد الصحافة الأوائل أمثال على يوسف صاحب المؤيد، د. حسين هيكل، زكى مبارك، أحمد حسن الزيات، أحمد أبو الفتح حينها اهترأت الصحافة وكادت أن تموت وأصبحت بوقا لإرضاء الحكام أو رجال الأعمال أو المصالح الشخصية الضيقة، وظهر بعض رؤساء التحرير الذين يكتبون بالريموت كنترول أو الذين يكتب لهم ولا يكتبون، وعدد الذين يكتبون لهم أكثر من الذين يقرأون مقالاتهم.
وحينما غاب رموز اللغة العربية الكبار أمثال العباقرة، محمد عبدالمطلب وعمر الدسوقى والطاهر مكى وشوقى ضيف، وتمام حسان، وحسن الشافعى، ضعفت اللغة فى أرضها وبلادها وبين أهلها حتى صار معظم السياسيين الكبار فضلا عن غيرهم يخطئون فى أبسط قواعد النحو وأكثرهم ينصب الفاعل ويرفع المفعول به، وضاعت اللغة العربية أو كادت أن تضيع.
وحينما غاب أقطاب التصوف الكبار أمثال أبو الوفا الشرقاوى، ومحمد ذكى إبراهيم، وعبدالحليم محمود، والشعراوى، والجعفرى، ومحمد عبدالواحد أحمد، ومحمد الطيب، وأبو هاشم، واختلطت الصوفية بالبدع وابتعدت عن ساحة الشريعة ودارت فى أفلاك الجهل والتكسب الحرام وتحولت إلى سبوبة كغيرها من أغراض الدنيا.
وحينما غاب رواد أدب الأطفال الكبار أمثال كامل الكيلانى، عبدالتواب يوسف، يعقوب الشارونى، لم يعد هناك أدب للطفل فى مصر ولا كتابة متخصصة تغذى عقل الطفل وتنمى فكره ووجدانه وتسوق إليه المعانى العظيمة فى ثوب قصصى شيق، حتى أفلام ومسلسلات الطفل غير موجودة أصلا فى مصر أو العالم العربى ولم يبق أمامنا سوى دبلجة مسلسلات الكرتون الأجنبية التى لا تلائم أوطاننا ولا ديننا.
وحينما غاب رواد التعليم الكبار أمثال على مبارك ولطفى السيد وطه حسين، وعبدالعزيز فهمى، القوصى، انهار التعليم تماما وأصبح التعليم الحكومى علما على الفشل والتخلف وكادت النخبة المصرية أن تخرج فقط من المدارس الدولية ومن الجامعات الأجنبية وهذه تربى أبناءها على قيم ومثل قد تتصادم فى بعض مدخلاتها ومخرجاتها مع قيم الوطن والدين.
وحينما غاب أعلام قراء القرآن العظام الذين أسمعوا العالم كله القرآن غضا طريا نابضا قويا وكأنه نزل لتوه من السماء ومنهم الشيوخ/ رفعت والمنشاوى، ومصطفى إسماعيل وشعيشع وعبدالباسط والبنا والطبلاوى، عقمت مصر أن تخرج أشباههم وأمثالهم ولم يعد هناك اهتمام بالقرآن تلاوة أو دراسة أو سماعا وكل الأصوات الجميلة ذهبت إلى الغناء وأكثرهم حرقه اللهو والعبث، حيث الفساد والفتن فى الغناء ليس لها حدود.
وحينما غيب الموت عباقرة الإنشاد الدينى العظام أمثال النقشبندى وطوبار، والكحلاوى، عمران والفشنى، وياسين فتخلفت مصر فى هذا الفن العظيم وعقمت عن إخراج النابهين فيه وحلت محلها دول أخرى.
مثل هؤلاء العباقرة نشأوا وترعرعوا وتكونت ملكاتهم ونضجت مواهبهم فى أجواء الحرية والتعددية، والتسامح والتلاحم والتراحم بعيدا عن الصراعات السياسية فلا يمكن للعقل أن ينطلق ولا للإبداع أن يستيقظ وينمو فى أجواء الاستبداد أو الديكتاتورية أو السجون التى تبتلع هذا وتهضم ذاك.
هؤلاء جميعا تخرجوا فى مدارس العبقرية والفكر الرفيع قبل أن تكون هناك وزارة ثقافة، وقبل أن تصبح الجامعات هزيلة مريضة بالأنيميا العلمية، وبعضهم مثل العقاد حصل على الابتدائية فقط وكان أعلم من أصحاب الدكتوراه اليوم حيث أضحت تباع فى أسواق النخاسة العلمية فضلا عن سرقة الرسائل.
ولو أن مصر استمرت على نهج الحريات العامة والوطنية الصادقة والتلاحم الوطنى وتركت الأحقاد والكراهية المتبادلة والنفاق الذى لا سقف له وغياب التطرف والتكفير والتفجير الذى يقابله التعذيب والسجون لتفوقنا على اليابان وكوريا وألمانيا، ففى أجواء الاستبداد والكراهية والإقصاء المتبادل يكثر التطرف الدينى والعلمانى والإلحاد ويسود خطاب التكفير لا الهداية والاستبداد باسم الوطنية والإقصاء باسم الولاء والبراء، ويكثر الأدعياء ويتسلق الفاشلون على أكتاف العلماء والمخلصين والناجحين.