تحدثنا فى الكثير من المقالات السابقة عن بعض مهام الأستاذ الجامعى وما يستتبعها من صفات شخصية تساعد على النجاح فى هذه المهام، طبعا جودة الأبحاث العلمية (وليس عددها) من أهم ما ينتج الأستاذ، ولكننا قلنا أيضا فى مقال سابق أن الطلاب يعتبروا من أهم ما ينتج الأستاذ الجامعى، السؤال هنا هو كيف يتعامل الأستاذ مع طلبته؟ دعنا نلخص ذلك فى الآتى: إعطاء العلم وإعطاء القدوة والتوجيه فى دروب الحياة.
إعطاء العلم هو أول ما يتبادر للذهن عندما نتحدث عن علاقة التلميذ بالأستاذ بل فى الغالب يكون الشئ الوحيد الذى نفكر فيه، عندما يدخل الأستاذ المحاضرة أو عندما يشرف على رسالة ماجستير أو دكتوراه لطالب فإنه يعطى من خبرته وعلمه للطالب، الكثير من الأساتذة يكتفون بإعطاء الكثير من المعلومات للطالب وكفى.. لللأسف.. وأقول للأسف لأن إعطاء معلومات وخبرة للطالب يجب أن تتم بفاعلية وبأفضل وسيلة ممكنة وهذا هو فن التدريس، وقليل جدا من الأساتذة يقرأ في هذا الفن، هناك الكثير من الكتب عن سيكولوجية التعليم وكيفية التعامل مع الشخصيات المختلفة للطلاب مثلا هناك كتاب يسمى "كيف يعمل التعليم" (How Learning Works) لخمسة مؤلفين نشر عام 2010 يحتوى على بعض نظريات سيكيولوجية التعليم ولا يكتفى بسرد النظريات ولكن يشرح كيفية تطبيقها في التدريس والعلاقة مع الطالب، فهل يقرأ الأساتذة بعض هذه الكتب أو يحضرون مؤتمرات عن فنون التدريس؟ أم يعتبرون ذلك مضيعة للوقت؟ أم يريدون ولا يجدون الوقت؟
الوسيلة الثانية للتعامل مع الطلاب هو إعطاء القدوة فالطالب يرى الأستاذ ويرسم فى ذهنه صورة لهذا الأستاذ حسب أفعال هذا الأخير، هذه الصورة الذهنية تؤثر على مدى ما يتعلمه الطالب من الأستاذ، فكلما حسنت هذه الصورة كلما تعلم الطالب أكثر ليس فقط من معلومات الأستاذ ولكن أيضا من تعامله في الحياة وطريقة تفكيره.
الوسيلة الثالثة هي الأصعب فهى تمتد لفترات طويلة بعد تخرج الطالب وقليل جدا من الأساتذة من يحافظون على هذه العلاقة حيث يساعدون طلابهم في رحلة الحياة بتجاربهم وخبرتهم.
نلاحظ أن هذه الوسائل مرتبة من الأدنى للأعلى فالأستاذ كى يعطى القدوة يجب أولا أن يدرس ويعلم بفاعلية ويبذل كل جهده في ذلك وفى تحسين قدراته في التدريس وسيشعر الطالب بذلك وهذه أول الخطوات نحو اتخاذ الأستاذ قدوة وإذا اتخذه قدوة فالعلاقة بين الأستاذ والتلميذ قد تمتد لبعد التخرج.. فالأستاذية ليست فقط في العلم ولكن الأستاذية أيضا في التعامل مع الطلاب.. وشخصيتنا اليوم هي أفضل مثال للأستاذيتين.. هو من رواد علم البحار والمحيطات والأحياء المائية.
عندما نتحدث عن علوم البحار والمحيطات في مصر يأتي إلى الذهن ثلاثة أسماء: الدكتور حسين فوزى (السندباد البحرى) والدكتور حامد جوهر (صاحب البرنامج الشهير عالم البحار) وشخصيتنا اليوم الدكتور يوسف حليم.. فمن هو الدكتور يوسف حليم؟ وكيف وصل إلى الأستاذيتين؟
ولد الدكتور يوسف حليم في 27 يناير 1925 وحصل على البكالوريوس في الكيمياء وعالم الحيوان من كلية العلوم جامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن) عام 1948، ولكن الدكتور حليم كان دائما شغوفا بالبحر منذ أيام الطفولة والرحلات العائلية لرأس البر ولم يكن هناك قسم لعلوم البحار في الجامعات المصرية، لذلك بعد حصوله على البكالوريوس عندما علم بفتح هذا القسم في كلية العلوم بجامعة فاروق الأول (جامعة الإسكندرية الآن) على يد الدكتور حسين فوزى سارع بالسفر وتقديم أوراقه، بعد سنتين حصل على دبلومة علوم المحيطات (Oceanography) حيث لم يكن القسم قد بدأ بعد في إعطاء الماجستير وبهذا يعتبر من الدفعة الأولى التي تخرجت من هذا القسم في الدراسات العليا، توطدت العلاقة بين العالم الكبير حسين فوزى والعالم الشاب يوسف حليم حين عين معيدا ودرس على يديه وعلى يد الدكتور عبد الفتاح محمد، في أثناء ذلك بدأ العالم الشاب في مراسلة فرنسا للدراسة وحصل فعلا على منحة من الحكومة الفرنسية لدراسة الدكتوراه بداية من سنة 1952 في جامعة باريس ونوقشت الرسالة في السوربون عام 1956.
في أثناء الدراسة في فرنسا تتلمذ الدكتور يوسف حليم على يد العلماء الكبار في مجال علوم البحار والمحيطات جريجوار تريجوبوف (Grégoire Trégouboff) ولويس فاج (Louis Fage) وقد قضى أغلب الفترة في مدينة فيلفرانش (villefranche-Sur-Mer) في جنوب فرنسا ويقول الدكتوربول نيفال (Paul Nival) من معمل أبحاث علوم الحيوان فى مدينة فيلفرنش أن أبحاث الدكتور حليم أثناء الدكتوراه فتحت الباب لعلوم البحار فى هذا المعمل فى الخمسينات!
بعد ذلك عاد الدكتور يوسف حليم لجامعة الإسكندرية ليساهم في إنشاء وتطوير قسم العلوم البحرية والمحيطات هناك ووصل إلى منصب وكيل كلية العلوم من العام 1975 وحتى العام 1981، الرحلة منذ العودة إلى مصر بعد الدكتوراه تظهر بوضوع الأستاذيتين! فلنتصفح تلك الفترة من حياة العالم الكبير.
على المستوى العلمى للدكتور يوسف حليم أكثر من مائة بحث منها 25 بحث عن التلوث البيئي في البحار وكيفية كشفه ومواجهته (ما أحوجنا إلى إعادة قراءة هذه الأبحاث الآن!) بل واكتشف نوع من الطحالب الضارة وحيدة الخلية مسمى باسمه (Alexandrium minutum Halim) وفى 1997 كان له دور فعال فى مشروع مشترك بين علماء البحار والمؤرخين وعلماء الآثار للمحافظة على الثروة الأثرية فى قاع البحر المتوسط وكان هذا المشروع بمشاركة جامعة الإسكندرية والمجلس الأعلى للآثار واليونسكو.. وتقديرا لأبحاثه القيمة حصل الدكتور يوسف حليم على جائزة الأمم المتحدة للبيئة (Global 500) عام 1990.. هذه كلها أستاذية العلم فماذا عن أستاذية التعامل مع الطلاب؟
يقول عنه طلبته (الذين حملوا الراية بعد جيل الرواد) أن الدكتور يوسف حليم كان يجمع بين الدقة العلمية الشديدة وبين أخلاقيات العلم العالية وهذا ما جعله قدوة لهم، بل إنه كان يحضر لهم من سفرياته في الخارج لحضور اجتماعات أو مؤتمرات ما يحتاجونه في أبحاثهم، ليس هذا فقط.. هناك الكثير من الروايات عن الأستاذ القدوة، مثلا في إحدى سفرياته للخارج لإلقاء محاضرة في جامعة جنوب كاليفورنيا طلب الأستاذ الأمريكي من الأستاذ المصرى أن يقلل من تواضعه قليلا لأن هذه بضاعة غير مطلوبة في أمريكا فقد كان الدكتور يوسف حليم جم التواضع ويحاول دائما التقليل من إنجازاته (بعكس ما نراه الآن من أساليب التسويق!).
قصة أخرى تحكيها إحدى تلميذات الدكتور حليم وهى الدكتورة أماني إسماعيل وقد وصلت إلى رئاسة القسم ووكالة الكلية بعد ذلك عن كيفية إجادة العالم الجليل لفن التدريس والتعليم، في أثناء دراستها للماجستير طلب منها الدكتور رسم عينة تحت الميكروسكوب فرسمتها وذهبت إلى مكتبه لتريها للأستاذ المشرف وكان عنده أستاذ آخر، رأى هذا الأستاذ الآخر الرسوم وقال "إيه ده الرسومات دى وحشة قوى"! تضايق الدكتور حليم من ذلك وتكلم في موضوع آخر حتى انصرف الضيف ثم قال لطالبته عندما رأى الرسوم أنه لم يكن يتخيل أننها ستتعلم الرسم بهذه السرعة!! ثم أخذ يمدح في الرسوم ويعطى بعض التوجيهات لتحسينها، خرجت الطالبة من عنده وهى فرحة بما قال وذهبت لتنفذ التوجيهات لتبهر أستاذها، وفى كل مرة كان ينظر للرسوم ويمدحها ويعطى توجيهات بسيطة حتى أصبحت الرسوم متقنة، تقول الطالبة (الأستاذة الدكتورة الآن) إنها عندما قارنت الرسوم النهائية بالأولى وجدت أن الأولى فعلا "كانت وحشة قوى" ولكن العالم التربوى العظيم كان أستاذا في التعامل مع الطلاب وتوجيههم. هناك فارق كبير بين أن يعمل الطلاب ما تقوله لخوفهم منك وبين أن يعملوه حبا لك! نتيجة لكل ذلك كانت علاقة العالم الكبير بطلابة تمتد طويلا لما بعد التخرج!
التعليم هو خط الدفاع الأول... والأخير... نحو تقدم الأمم، فهل نتعلم من شخصية العالم الكبير يوسف حليم الذى ظل يعمل حتى آخر أيامه عندما غادر دنيانا يوم الإثنين 18 مايو عام 2015 عن 90 عاما؟