أحوال الباحثين فى القرن الواحد والعشرين - محمد زهران - بوابة الشروق
الإثنين 31 مارس 2025 1:29 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

أحوال الباحثين فى القرن الواحد والعشرين

نشر فى : الجمعة 28 مارس 2025 - 8:10 م | آخر تحديث : الجمعة 28 مارس 2025 - 8:10 م

من الأشياء الجميلة عندنا أننا نبجل الأستاذ الجامعى ونبجل العلماء، لكننا نفعل ذلك لقيامهم بالبحث العلمى الذى يظن رجل الشارع أنه شىء معقد يحتاج شخصا عبقريا، لا نبجل الأستاذ الجامعى لأنه يقوم بالتدريس لأننا نظن (أو الأغلب مننا يظن) أن التدريس يمكن أن يقوم به أى شخص قرأ كتابا وقام بترديده أمام الطلاب، هذا طبعا أبعد ما يكون عن الحقيقة لكننا لن نتكلم عن التدريس اليوم، بل عن البحث العلمى، سنتكلم عن عنصر واحد من عناصر البحث العلمى وهو الباحث العلمى. سنتكلم عن الباحث فى العلوم التطبيقية لأن فى تخصص كاتب هذه السطور. قد ينطبق ما نقوله على الباحثين فى العلوم الإنسانية لكننا سنترك ذلك لأهلها.
نفضل لفظة الباحث على لفظة العالم، لأن تلك الأخيرة أقرب إلى جائزة أو لقب تحصل عليه بعد عمل دءوب يتبعه نجاح كبير، وحيث أننا ذكرنا الباحث وذكرنا النجاح فكيف نتعرف على الباحث الناجح؟
• • •
لو كنت تدير مركزا للأبحاث وأردت تعيين باحث فى تخصص معين، كيف تعرف الباحث الناجح من الباحث الذى يبدو ناجحا؟
هل هو الباحث الذى يمتلك عددا أكبر من الأبحاث المنشورة؟ ليس بالضرورة، الباحث قد ينشر أبحاثه فى مؤتمرات أو مجلات ضعيفة، أى التى لا تخضع البحث إلى مراجعة دقيقة (أى تحكيم) من الباحثين الآخرين، وتنشر البحث فقط من أجل تحصيل مصاريف النشر، هناك الكثير من تلك المجلات والمؤتمرات للأسف. قد يكون الباحث ينشر بحثا كبيرا مقسما لأبحاث صغيرة حتى يُكثر من أبحاثه المنشورة، وهو ما يُطلق عليه فى الوسط الأكاديمى «أقل وحدة قابلة للنشر» أو (Least Publishable Unit).
هل هو الباحث الذى يمتلك عددا أكبر من الأبحاث فى المؤتمرات والمجلات المعتبرة؟ ليس بالضرورة، فقد يكون عضوا فى فريق بحثى كبير وقام بشىء صغير فى هذا البحث لكن يتم وضع أسماء الفريق البحثى كله، لقد رأيت أبحاثا عليها أسماء أكثر من عشرين باحثا.
هل هو الباحث الذى يمتلك أكبر عدد من الاستشهادات لأبحاثه، أى عدد الأبحاث التى تكلمت عن أبحاثه؟ ليس بالضرورة، فقد يكون قد اتفق مع باحثين آخرين أن يذكر أبحاثهم فى أوراقه البحثية على أن يقوموا بالمثل، وهذا من أسوأ الأشياء فى البحث العلمى ويقترب كثيرا من الغش.
أعتقد أن الباحث الناجح يمكن تعريفه من ناحية البحث العلمى كالآتى، وهذه وجهة نظر شخصية ترحب بالمناقشة:
• له عدد من الأبحاث المنشورة فى مجلات أو مؤتمرات معتبرة، لا يهم عدد هذه الأبحاث طالما كان ينشر بحثا أو اثنين فى العام منذ تخرجه. إذا كان البحث يعمل فى معمل أبحاث فى شركة كبيرة حيث أغلب البحث العلمى لا يُسمح بنشره لأنه يُستخدم فى منتجات أو خدمات الشركة فبراءات الاختراعات تحل محل النشر العلمى.
• هو الباحث الأساسى فى تلك الأبحاث المنشورة.
• تلك الأبحاث تحل مشكلة ملحة فى المجال البحثى أو تعطى نظرة مستقبلية مهمة. السبب فى هذه النقطة أنه حتى فى المجلات والمؤتمرات المعتبرة هناك الكثير من الأبحاث «العادية» أو تعتبر من الرفاهية العلمية، لكنها تنشر لأن تلك المجلات إذا نشرت فقط تلك الأبحاث التى تحل مشكلات حقيقية مهمة وليست من باب الرفاهية العلمية فقد تغلق المجلة أبوابها من قلة الأبحاث.
قد يعترض البعض بأن العدد مهم لأن الترقية فى الجامعات تعتمد عليه.
• • •
الأستاذ الجامعى مطالب بالتدريس بكل المجهود المطلوب فى التحضير والمحاضرات والتعامل مع مشاكل الطلاب إلخ. الأستاذ الجامعى أيضا مطالب بالنشر العلمى وبالحصول على تمويل لأبحاثه. هنا تظهر المعضلة: التدريس أم البحث العلمى؟ كما قلنا فى بداية المقال أن البحث العلمى له «هيبة» أكبر من التدريس، أغلب لجان الترقية فى الجامعات تنظر للنشر العلمى والتمويل للأبحاث وقد لا تنظر للتدريس ما لم تكن هناك مشكلة كبيرة مع الطلاب، وهذا شىء مؤسف لكنه الواقع فى أغلب الجامعات البحثية. إذا أراد الشخص التفرغ للبحث العلمى فقط فمن الأفضل له وللطلاب أن يذهب لمراكز الأبحاث مثل أكاديمية البحث العلمى والمركز القومى للبحوث، أو المعامل البحثية الموجودة فى الشركات الكبيرة.
وهذه همسة فى أذن لجان الترقية فى الجامعات: ضعوا التدريس والبحث العلمى على نفس الدرجة من الأهمية وانظروا إلى النشاط العلمى للأستاذ الجامعى واضعين فى الاعتبار الوقت والمجهود المبذولين فى التدريس.
• • •
أما بعد، هناك عدة نقاط أحب أن أطرحها كوجهة نظر شخصية تقبل، بل وترحب بالنقاش لأنه فى كل الأحوال سيكون نقاشا بناءً لتحسين حال البحث العلمى فى بلادنا:
• أولا: لا يجب فى الوقت الحالى أن نعتمد على التصنيف العام للجامعات فى العالم أو نلقى إليها بالا، لأن التصنيف العام لا يعنى شيئا كثيرا، فقد تكون هناك جامعة متأخرة فى التصنيف العام لكنها متقدمة جدا فى تخصص معين، لذلك التصنيف المتعلق بالتخصص أفضل. وحتى هذا التصنيف لا يجب أن يكون هدفنا فى المستقبل القريب، بل الأفضل أن يكون فى المستقبل المتوسط والبعيد. فى المستقبل القريب نريد باحثين يحلون مشاكل موجودة بالفعل على الأرض، وهذا قد لا يقود إلى النشر فى المجلات الدولية الكبرى لكن يحل مشاكل مهمة بالنسبة لنا مثل تحلية المياه المالحة بتكلفة أقل أو تحسين كفاءة الخلايا الشمسية إلخ. أما التصنيف فهو من قبيل القوة الناعمة، لا نستطيع إنكار أهميتها لكنها تأتى فى المرتبة الثانية بعد حل المشكلات الملحة.
• ثانيا: يجب أن نتخلص من عقدة الخواجة، ليس كل ما يأتى من الخارج ممتاز، هناك جامعات فى الخارج ضعيفة المستوى جدا. عقدة الخواجة تنبع من عدم ثقتنا فى جامعاتنا وليس ارتفاع ثقتنا فى الجامعات الأجنبية. هذا لا يعنى عدم الالتفات للخارج لكنه يعنى عدم الانسياق ورائهم «عميانى».
• ثالثا: فيما يتعلق بالمشروعات البحثية يجب أن ندقق جدا فيما نسميه عنصر الخبرة، عنصر الخبرة لا يعنى السن المتقدمة مع انحناءة الظهر وشيب الشعر. فقد يستمر شخص فى عمله لعشرات السنين لكنه لا يكتسب الخبرة، وفى عصرنا هذا الذى يتميز بسهولة الحصول على المعلومات وترتيبها وتحليلها فإن شخصا صغير السن نسبيا قد يكون أكثر خبرة من الأكبر سنا.
• رابعا: يجب أن نقتنع أن التدريس فى نفس أهمية البحث العلمى، لكننا نظن أن التدريس مجرد قراءة «كلمتين» وترديدهم أمام الطلبة، وهذا جهل تام بالتدريس الحقيقى، على الناحية الأخرى قد تجد شخصا موهوبا جدا فى التدريس لكنه يتجه للبحث العلمى وهو ليس بنفس القوة فيه، فقط من باب أن البحث العلمى أرقى عند العامة، أى يختار البحث العلمى من باب «المنظرة» وحتى يقول الناس عنه أنه عالم.
الباحث العلمى الناجح هو نتاج مجتمع يحتفى بالعلم والتعليم والفهم الحقيقى لآليات العالم الذى نحيا فيه.

محمد زهران عضو هيئة التدريس بجامعة نيويورك فى تخصص هندسة وعلوم الحاسبات، حاصل على الدكتوراه فى نفس التخصص من جامعة ميريلاند الأمريكية، له العديد من الأبحاث العلمية المنشورة فى الدوريات والمؤتمرات الدولية، بالإضافة إلى الأبحاث والتدريس.. له اهتمامات عديدة بتاريخ وفلسفة العلوم ويرى أنها من دعائم البحث العلمى، يستمتع جداً بوجوده وسط طلابه فى قاعات المحاضرات ومعامل الأبحاث والمؤتمرات، أمله أن يرى الثقافة والمعرفة من أساسيات الحياة فى مصر.
التعليقات