نلاحظ أن قصة انضمام بريطانيا إلى السوق الأوروبية هى بنفس قدر درامية سيناريوهات خروجها المطروح من الاتحاد الأوروبى، ومن هنا تساءلنا: لماذا هذا الخلاف فى البداية كما هو فى النهاية بالنسبة لانضمام بريطانيا وخروجها من الاتحاد الأوروبى؟
من المعلوم أن بريطانيا لم تستطع الانضمام للاتحاد إلا بعد أن ترك ديجول الحكم عام 1969، لتصبح عام 1973 دولة كاملة العضوية فى السوق الأوروبية المشتركة، وفى هذه اللحظات، يتذكر الأوروبيون كلمات ديجول ــ فى مؤتمر صحفى 14 يناير 1963ــ عندما طالبت بريطانيا بالانضمام للاتحاد الأوروبى، بقوله: «بريطانيا ليست دولة أوروبية»!، كما أضاف بأن «بريطانيا تملك كراهية متعمقة للكيانات الأوروبية! والسؤال المطروح: لماذا قال ديجول هذه الأقوال؟ وما هى وجهة نظره؟
كان ديجول يرى أن بريطانيا ــ من الناحية الجغرافية ــ جزيرة تفصلها المياه عن القارة الأوروبية، وهذا جعلها تتصف بالشخصية الانعزالية، كما أن هذه الطبيعة الجغرافية جعلتها ترتبط بالبحر وبالتبادلات التجارية، وابتعدت سوقها وتموينها الغذائى عن الدول الأوروبية، فارتبطت بدول أخرى مختلفة فى الأمريكتين.
هذه الرؤية فيها كثير من الصواب إذا رجعنا لنظرية جمال حمدان ــ أهم علماء الجغرافيا ــ الذى تتلخص نظريته ــ فى كتابه «شخصية مصر دراسة فى عبقرية المكان» (1975 ــ 1984) ــ فى أن التكوين النفسى للإنسان مرتبط بالطبيعة الجغرافية للأرض التى يعيش عليها، فكتب عن تأثير الجغرافيا والجيولوجيا والمناخ والأنهار والبحار والصحراء على الشعوب، ونتائجها على سيكولوجياتهم وسياساتهم واقتصادياتهم.
ومن الناحية التاريخية، كان يرى أن بريطانيا ــ منذ أكثر من300 عام ــ تَتوجه دائما عبر الأطلنطى إلى الولايات المتحدة التى تعتبرها امتدادا لها، وذلك منذ ذهب البريطانيون إلى القارة الجديدة لكى يبنوا فيها حياة ومجتمعا ودولة، فعقدوا معها روابط اجتماعية ومعنوية تحولت إلى روابط سياسية ودفاعية، وهذا أبعد بريطانيا أكثر عن القارة الأوروبية، بالإضافة إلى أنه كان يعتبر بريطانيا «حصان طروادة» والذى يحمل بداخله الولايات المتحدة، وهذا ما يفسر زيارة الرئيس الأمريكى أوباما ــ قبل استفتاء 2016 ــ لبريطانيا لإقناع شعبها بالتصويت لصالح البقاء ضمن الاتحاد الأوروبى حتى لا يخسر حليفه داخل أوروبا، وتحالف بريطانيا مع الولايات المتحدة لاحتلال العراق عام 2003 ــ على الرغم من معارضة الأمم المتحدة ــ دليل قاطع على صحة رؤية ديجول.
ومن الناحية الثقافية، كان ديجول يرى أن التقارب بين ألمانيا وفرنسا ــ اللتين أسستا مشروع الفحم والصلب فى 1948 (نواة السوق الأوروبية المشتركة) ــ لم يكن تقاربا اقتصاديا وسياسيا وجغرافيا فقط، بل كان بالأحرى ثقافيا، فكانت الدولتان متفقتين على أن بريطانيا «الأنجلوسكسونية» ليست من نفس طبيعة «الجرمانيين»، و«الغوليين»، أى الألمان والفرنسيين.
وهذا دليل ثالث على صحة رؤية ديجول، فاللغة الفرنسية ــ على وجه الخصوص ــ تنحدر من اللغة اللاتينية، مثل البرتغالية، والإسبانية، والإيطالية، وشعوبهم تمثل الجزء الأكبر من دول أوروبا، بينما الإنجليزية هى لغة جرمانية جُلِبَت إلى بريطانيا من قبل المستوطنين الأنجلوسكسونيين فى بداية القرن الخامس.
***
ويعكس هذا الاختلاف فى الأصول اللغوية جوهر الخلاف الدائم بين الشعوب اللاتينية الأصل من ناحية، وبين بريطانيا الأنجلوسكسونية من ناحية أخرى، فهو اختلاف ثقافى وحضارى ــ من الطراز الأول ــ أدَّيَا إلى خلاف دائم فى الرؤية، وفى منهجية التفكير، وبالتالى فى أسلوب الحياة، فاللغة لا تعتمد فقط على مجموعة من الإشارات الصوتية أو الشكلية المرتكزة على عدد من القواعد النحوية والصرفية الخاصة بها، ولكنها تعتمد فى الأساس على الجذور التاريخية والحضارية لها.
ومن هنا تأتى المشكلات فى الترجمة من لغة إلى أخرى، ونذكر ــ على سبيل المثال ــ المقولة الشهيرة فى اللغة العربية للتعبير عن السعادة: «إن هذا الأمر أثلج صدرى»، تُترجم إلى اللغات الأوروبية بـ«هذا الأمر أدفأ قلبى»!، لأن البرودة التى تُسعد الإنسان فى الشرق حيث الحرارة المرتفعة، لا يمكن أن تُسعد الإنسان الأوروبى الذى يعانى من البرودة ويبحث عن الدفء والحرارة! هذا المثال يوضح اختلاف التعبير بين منطقتين جغرافيتين مختلفتين، الأولى حارة والثانية باردة.
ولمزيد من التوضيح، نذكر المثال التالى الذى يكشف عن الاختلاف فى التفكير بين الإنسان العربى ونظيره الغربى من الناحية اللغوية، فمن المعروف أن الجملة الفرنسية والإنجليزية، ومعظم اللغات الأوروبية اسمية، ويُعبر بها غالبا بصيغة المبنى للمعلوم، بينما الجملة العربية فى الأساس جملة فعلية (عدا جملة المبتدأ والخبر بدون فعل)، وأغلب التعبيرات بها بصيغة المبنى للمجهول، فإذا فقد شخص قلمه يقول: «ضاع القلم»، الفاعل مجهول، وهذا على عكس اللغات الأوروبية التى تحدد الفاعل فى بداية الجملة، وعليه يكون الفاعل معلوما، هكذا نقول بالفرنسية «J'ai perdu mon stylo»، وبالإنجليزية «I lost my pen»، وترجمتهما الحرفية: «أنا ضيعت قلمى»، وهذا يفيد أن التعبير بصيغة المعلوم يُحدد مسئولية الشخص عن فقد قلمه، بينما التركيبة اللغوية فى المبنى للمجهول لا تجعل الشخص مسئولا عن فعله، ولعل هذا يفسر أن الإنسان العربى ــ بشكل عام ــ يلجأ لمفهوم «المؤامرة»، لكى ينفى عن نفسه مسئولية وقوع الحدث أو الفشل فى تحقيق هدفه!
ونعطى مثالا ثالث يوضح بشكل أكثر دقة أسباب الخلاف بين الإنجليز وبقية الشعوب الأوروبية الأخرى، للتعبير عن عبور شخص للنهر، يقول الفرنسيون «Il traversa la rivière à la nage»، بينما يقول الإنجليز «He swam across the river»، نلاحظ أن الفرنسى استخدم فعل (traverser)، بمعنى «عَبَر»، أما الإنجليزى استخدم فعل «to swim»، بمعنى «سَبَح»، والواضح أن الفرنسى ركز على الغاية أو الهدف وهو «العبور»، أما الإنجليزى فقد ركز على الوسيلة (كيفية العبور)، وهى «السباحة»، ونستنتج من هذا أن الفرنسى لا يهتم بتفصيلات تحقيق الهدف، أما الإنجليزى يهتم بالوسيلة والتفصيلات التى يحقق بها هدفه، هذا المثل يشرح بقوة أسباب الخلاف الرئيسى بين الشعبين من الناحية اللغوية، لأن لكل منهما منطق مختلف فى التفكير.
***
ومن بين الاختلافات فى منهجية الحياة بين الإنجليز والأوروبيين التى يمكن أن يكون لها دلائلها، أن بريطانيا الدولة الوحيدة التى فيها اتجاه سير المرور من اليمين، وليس من اليسار ككل الدول الأخرى!، وهذا يشير إلى أنه يوجد أسلوب حياة مختلف بين الطرفين، يجعل الخلاف قائما دائما بينهما.
ولهذا ــ اجتماعيا ــ يُنصح دائما بالكفاءة فى الزواج، فهى شرط النجاح، فاختلاف البيئة، أو المستوى المادى، أو الاجتماعى، أو منهجية التفكير هى عوامل تؤدى ــ فى أغلب الأحوال ــ لفشل الزواج بين طرفين صالحين! ولذلك يُنصح بالتكافؤ – قدر الإمكان ــ بين الطرفين فى نواحى الحياة المختلفة.
ولعلنا نستنتج أيضا، مما سبق، خطورة نُظم التعليم المتعددة والمتنوعة فى مصر، نجد لدينا مدارس فرنسية وإنجليزية وأمريكية وألمانية وأخيرا يابانية!، كيف يتحقق الانسجام النفسى والتوافق الفكرى لشعب متعدد المناهج والثقافات! علما بأن كل الدول المتقدمة تعتمد نوعا واحدا من التعليم هو التعليم القومى!
وبالعودة إلى موضوعنا الرئيسى، نجد أن ديجول لم يكن قائدا عسكريا فذا فقط، استطاع أن يحرر فرنسا من الاحتلال النازى، ولكنه أيضا صاحب بصيرة سياسية ثاقبة عندما حذر من أن فرض بريطانيا كعضو فى السوق الأوروبية المشتركة سوف يؤدى إلى تحطيمه، كان يستنتج هذا الأمر من خلال تجاربه، وفطنته التى يجب أن يتمتع بها السياسى الناجح، ولهذا يقول الأوروبيون الآن: «ربما كان الجنرال الفرنسى العجوز على حق»!
ونحن فى هذا المقال أثبتنا مصداقية رؤية ديجول من خلال تحليلات تاريخية وجغرافية ولغوية وثقافية، فسرت كل منها أسباب الخلاف الدائم بين الإنجليز من ناحية وبين الشعوب الأوروبية الأخرى من ناحية أخرى.
أستاذ الأدب واللغويات بقسم اللغة الفرنسية بجامعة الملك سعود بالرياض