«فجر الضمير» فى المتحف الكبير - طلعت إسماعيل - بوابة الشروق
الثلاثاء 4 نوفمبر 2025 4:40 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من يحسم السوبر المصري؟

«فجر الضمير» فى المتحف الكبير

نشر فى : الإثنين 3 نوفمبر 2025 - 7:25 م | آخر تحديث : الإثنين 3 نوفمبر 2025 - 7:25 م

شاركنا العالم واحتفلنا نحن المصريين بافتتاح المتحف المصرى الكبير، هذا الصرح الذى يختصر بين جدرانه وردهاته خلاصة جهد وعرق وتصميم آلاف المصريين الذين عملوا بإخلاص ليلا ونهارا على امتداد أكثر من عشرين عاما، ليقدموا للبشرية «هدية» تليق بعراقة الحضارة المصرية التى لا تزال تبهر الأجيال جيلا بعد جيل فى بقاع الأرض الأربع.

 


وبحكم الجيرة، حيث أسكن على بُعد أمتار من هذا المعلم العملاق، تابعت عن قرب المسيرة الطويلة التى بدأت برفع مئات الآلاف من الأمتار المكعبة من الرمال، مرورا بعمليات التشييد والبناء، وانتهاء بيوم الافتتاح الأسطورى الذى حضرته وفود رسمية من 79 دولة، بينها 39 وفدا برئاسة ملوك وأمراء ورؤساء دول وحكومات، وفقا بيان لمجلس الوزراء.
على مساحة تقترب من نصف مليون متر مربع، تتوزع عشرات الآلاف من القطع الأثرية، فى مقدمتها مجموعة الملك الذهبى توت عنخ آمون، والتى تعرض كاملة لأول مرة (خمسة آلاف قطعة)، بعد أن يستقبل الزائر الملك رمسيس الثانى بتمثاله المصنوع من الجرانيت الوردى، بطول 11.3 متر ووزن 83 طنًا، فى المدخل الرئيسى للمتحف.
يحتفى المتحف بملوك عظام، أمثال خوفو صاحب الهرم الأكبر ومراكب الشمس، ومرنبتاح الذى تحكى نقوش عموده المكتشف فى مارس 1970 بعين شمس عن انتصاره على أعداء مصر على حدودها الغربية. وعلى «الدرج العظيم»، حيث تماثيل الملك سنوسرت الأول، يمر الزائر بأضخم وأروع القطع الأثرية التى تجسد روائع فن النحت فى مصر القديمة، قبل أن تتكشف أمامه إطلالة بانورامية على الأهرامات الخالدة.
التصميم الفريد الذى يجعله بمثابة «هرم رابع» دفع منظمة اليونسكو إلى القول إن المتحف المصرى الكبير يمنح زواره فرصة فريدة للتنقل عبر خمسة آلاف عام من التاريخ المصرى القديم. إنه أيقونة يحق للمصريين التفاخر بها كأكبر متحف فى العالم. ولا ينبغى أن ننسى، فى خضم الاحتفال، توجيه الشكر لكل من ساهم فى بنائه من دول ومنظمات ومؤسسات وأفراد.
وبعيدا عن الجدل الذى أثاره حفل الافتتاح، وهو على كل حال عمل فنى يحتمل الاختلاف فى وجهات النظر، فإن أهم رسالة يمكن أن يحملها هذا الصرح العظيم هى إحياء ما قدمه المصرى القديم للعالم من قيم أخلاقية، أو ما أسماه عالم المصريات الأمريكى الشهير جيمس هنرى برستيد بـ«فجر الضمير».
ففى كتابه الشهير الذى ترجمه إلى العربية العالم المصرى الكبير الدكتور سليم حسن، يؤكد برستيد أن مصر القديمة كانت أول من وضع أسس الضمير الإنسانى، أى القدرة على التمييز بين الخير والشر بدافع داخلى لا خوفًا من عقوبة.
ويستند برستيد إلى نصوص مصرية قديمة مثل وصايا الحكيم بتاح حتب وتعاليم إخناتون، ليثبت أن المصريين الأوائل أدركوا مبكرا معانى العدالة والرحمة والصدق واحترام الحياة، وأن هذه القيم كانت تعبيرا عن وعى إنسانى متطور سبق الفكر الأخلاقى فى الحضارات الأخرى.
ويقول سليم حسن فى تقديمه للكتاب: «لست مبالغا إذا قررت أن خير كتاب أُخرج للناس فى هذا العصر من ذلك الطراز هو كتاب فجر الضمير، الذى وضعه الأستاذ برستيد عام 1934، وهو مؤلف يدلل على أن مصر أصل حضارة العالم ومهدها الأول، بل فيها شعر الإنسان لأول مرة بنداء الضمير، فنشأ الضمير الإنسانى بمصر وترعرع، وبها تكونت الأخلاق النفسية».
ما أحوج عالمنا اليوم إلى استعادة الضمير الذى تخلق فى ربوع أرض الكنانة قبل آلاف السنين، علّ البشر يضعون حدا للحروب والصراعات. فقد رأى المصرى القديم أن المجتمع لا يقوم على القوة، بل على ماعت، رمز الحق والعدل والميزان والانسجام الكونى، وهو خير ما يمكن أن يستخلصه المتجول وسط كنوز المتحف المصرى الكبير.
وأختم بما جاء فى مقدمة كتاب برستيد، نقلًا عن نصيحة موجهة إلى الأمير مريكارع من والده الذى عاش فى القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد:
«إن فضيلة الرجل المستقيم أحب (عند الله) من ثور الرجل الظالم». أى إن صلاح النفس أسمى من قرابين الظالمين.

التعليقات