كان هذا هو عنوان الدراسة التى صدرت أخيرا عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية وكتبها الأستاذ طارق عبدالعال مدير فريق المحامين بالمبادرة وراجعها الدكتور عمرو عبدالرحمن مدير وحدة الحريات المدنية. صدرت الدراسة المهمة فى زهاء ٦٠ صفحة وهدفت إلى الاشتباك مع القرارات بقانون التى صدرت عن السلطة التنفيذية فى غيبة البرلمان منذ يناير ٢٠١١ وحتى يونيو ٢٠١٥ والكيفية التى أثرت بها على الحقوق والحريات الأساسية.
انقسمت الدراسة، والتى تعد ــ فى تقديرى ــ الأهم والأكثر دقة فى مناقشة هذه التشريعات وآثارها، إلى ثلاثة أجزاء رئيسية، ناقش الجزء الأول منها ضوابط وشروط تولى السلطة التنفيذية لسلطة التشريع، بينما ناقش الجزء الثانى منها التطور الدستورى المصرى فى تناوله لحدود قيام السلطة التنفيذية بمهام تشريعية، ثم جاء الجزء الثالث والأخير بمناقشة بعض الأمثلة لهذه القوانين وتأثيرها على حقوق وحريات المواطنين الأساسية. أستعرض فى هذه السطور القليلة أهم ما لفت نظرى فى الدراسة، وأنا هنا ناقل بقليل من التصرف لبعض محتواها:
أولا: أن «التشريع الاستثنائى» الذى تمارسه السلطة التنفيذية يجب أن يكون مرتبطا بمفهوم «الضرورة» والذى تتفق معظم الدساتير على كون الأخير مرتبطا بخطر حالٍّ واستثنائى من شأنه تعريض البلاد لمخاطر جمة يستحيل معها ممارسة السلطة التشريعية بشكل اعتيادى عن طريق المؤسسات المخولة اساسا بهذا الحق (البرلمان) وأن هذا الاستثناء يزول بزوال الخطر أو التهديد الذى أُنشئ من أجله الاستثناء.
ثانيا: أن هذه الضرورة لها شروط، وأولها ألا يتخطى التشريع الاستثنائى حدود هذه الضرورة بحيث يكتفى بالتشريعات الحالّة واللازمة لمواجهة هذه الظروف الاستثنائية، وثانيها ألا يتعدى على «المجال المحتجز للقانون» وهو المجال المحدد بالدستور بما يعنى عدم جواز تعديل الدستور جزئيا أو كليا أو مخالفة أحكامه، ثم يأتى الشرط الثالث والمتعلق بانتهاء هذا الاستثناء بمجرد انتهاء الظروف الطارئة التى سوغت للسلطة التشريعية ممارسة هذا الحق على نحو طارئ.
ثالثا: أن هذه التشريعات الاستثنائية يجب أن تتعرض إلى نوعين من الرقابة، الأولى هى الرقابة التشريعية، بمعنى تصديق البرلمان على التشريعات التى اتخذت فى غيابه بعد عرضها عليه من السلطة التنفيذية، فإما أن يصدق عليها كما هى أو يعدلها أو يرفضها، فضلا عن الرقابة القضائية والتى تكون عن طريق الرقابة على دستورية القوانين عن طريق المحكمة الدستورية العليا بما للأخيرة من صلاحيات فى الحكم على دستورية كل القوانين سواء تلك التى تم تشريعها بشكل اعتيادى أو بشكل استثنائى.
***
رابعا: رصدت الدراسة الكيفية التى توسعت فيها السلطة التنفيذية منذ ٢٠١١ وحتى يونيو الفائت بشكل تدريجى فى إصدار قرارات بقانون فيما يتعلق بالشأن الاقتصادى بدرجة تخطت بكثير اعتبارات «الضرورة» المشار إليها أعلاه بحيث تدرجت من إصدار قرارات بقوانين لزيادة علاوات العاملين بالقطاع العام والدولة وكذلك زيادة معاشات العسكريين فى عام ٢٠١١ إلى إصدار قرارات بقانون تنظم التوجهات الاقتصادية للدولة فيما يتعلق بالتصالح مع المستثمرين فى القضايا المتعلقة بارتكابهم جرائم خاصة بأنشطتهم الاقتصادية فى ٢٠١٢ وصولا إلى ذروة هذه التشريعات الاستثنائية فى ٢٠١٣ فى عهد الرئيس المؤقت عدلى منصور لتعديل قانون المناقصات بإضافة امكانية عقد الصفقة بالاتفاق المباشر فى «الحالات العاجلة»، وهو ما رأت الدراسة أنه نموذج لسوء استخدام التشريع الاستثنائى لأنه لا يتعلق أبدا بشروط الضرورة السابق الإشارة إليها، فضلا عن القرار بقانون والخاص بالخدمة المدنية والتى رأت الدراسة أنه لم يحظ بأى نقاش مجتمعى رغم ما له من آثار هامة على هيكل الجهاز الإدارى.
خامسا: أما فيما يتعلق بالقوانين المتعلقة بمنظومة العدالة الجنائية، فقد رأت الدراسة أنها ــ وبشكل عام ــ جاءت غليظة وقاسية فضلا عن أنها رفعت الغرامات لمستويات غير مسبوقة، وعلقت الدراسة على تسعة مراسيم بقانون صدرت فى غيبة البرلمان منذ عام ٢٠١٣ وحتى الآن كلها رفعت حدود الغرامة وغلظت العقوبات وألغت الحد الأقصى للحبس الاحتياطى ونظمت عملية التظاهر على نحو مخالف لدستور ٢٠١٤، لتصل الدراسة إلى نفس ما توصلت إليه مسبقا حيث إن السلطة التنفيذية قد توسعت فى استخدام السلطة التشريعية الاستثنائية بالمخالفة لشروط الضرورة المنصوص عليها فى الخبرات الدستورية والسياسية المختلفة.
سادسا: اختتمت الدراسة بالتأكيد على استحالة تمكن مجلس النواب الجديد أن يفى بما اشترطته المادة ١٥٦ من دستور ٢٠١٤ والتى تقضى بوجوب نقاش المجلس وإقراره بالقرارات بقوانين التى صدرت فى غيبته خلال ١٥ يوما من انعقاده وإلا زال بأثر رجعى ما كان لها من قوة القانون، وارتأت الدراسة أن هذا مما يفوق القدرات البشرية خاصة أن هذه القرارات بقانون قد وصلت إلى المئات مما يستحيل معها أى مناقشة فى خلال المدة المذكورة.
***
انتهت الدراسة والتى اعتمدت بالأساس على مدخل قانونى فى تناول هذه المعضلة الكبيرة التى واجهت وستواجه الحياة السياسية فى مصر، ولى هنا أن أضيف ثلاث تعليقات من المدخل السياسى لمناقشة هذا الموضوع:
أما الأول، فهو أن مصر وعلى مدى ٦٠ شهرا تقريبا منذ حل برلمان ٢٠١٠ وحتى نهاية العام الحالى قد عاشت ١٢ شهرا فقط بسلطة تشريعية مقابل ما يقترب من ٤٨ شهرا بلا أى سلطة تشريعية ولو حتى شكلية أو حاملة لأختام السلطة التنفيذية، وهى سابقة خطيرة فى تاريخ الجمهورية منذ انشائها فى١٩٥٣ وتعد مؤشرا على بؤس حال السياسة فى مصر والتى افتقدت خلال السنوات القليلة الماضية أى معانى للنيابة أو الرقابة والمحاسبة أو التوازن والفصل بين السلطات وهو ما يعنى ان مصر خلال تلك المدة الفائتة قد عجزت حتى على إنشاء ديموقراطية شكلية على النحو الذى تمكن مبارك أحيانا من تحقيقه خلال سنوات حكمه.
ثانيا، أننا أمام سيناريو حتمى لا بديل عنه، وهو أن يضطر البرلمان الجديد أن «يمرر القرارات بقوانين» والتى صدرت فى غيبته بالمئات بنظام «موافقة؟...موافقة!» فحتى لو تم تفسير مدة الخمسة عشر يوما المذكورة فى المادة ١٥٦ على أنها أيام عمل، وبالتالى مد الفترة الحقيقية لمناقشة القوانين إلى ثلاثة أسابيع بدلا من أسبوعين فستظل فترة غير كافية لأى مناقشة حقيقة لهذه التشريعات الاستثنائية حتى لو بقى العمل متواصلا ٢٤ ساعة! وهو ما يعنى أن أول قصيدة البرلمان الجديد ستكون ببساطة كفرا!
وأخيرا، فإن تحديات هذا البرلمان لن تتوقف فقط عند حد مناقشة تلك التشريعات، ولكنه سيكون مطلوبا منه فى أول دور انعقاد أن يصدر قانون لتنظيم بناء وترميم الكنائس، بما يكفل حرية ممارسة المسيحيين لشعائرهم الدينية (م ٢٣٥)، وهو ما سيعد اختبارا حقيقا لمدى قدرة نواب الشعب إنهاء حالة الظلم الممنهج الذى تعرض له المسيحيون فيما يتعلق ببناء دور عبادتهم وممارسة هذه العبادات بلا تمييز وقدرته على مواجهة الفيتو المجتمعى المدعوم من بعض القوى السياسية والمجتمعية فى هذا الخصوص، وكذلك وفى نفس دور الانعقاد الأول هذا عليه أن يصدر قانونا آخر للعدالة الانتقالية يكفل كشف الحقيقة، والمحاسبة، واقتراح أطر المصالحة الوطنية، وتعويض الضحايا وفقا للمعايير الدولية (م ٢٤١)! وهذا اختبار آخر وهذه المرة بلا رتوش أو تجميل للعبارات فى مواجهة إرادة سياسية وتنفيذية ترى أن الكلام عن العدالة الانتقالية مضيعة للوقت إن لم يكن عملا عدائيا لمصالح وتحالفات السلطة الحالية، فهل يصمد البرلمان أمام كل هذه التحديات؟