أعادت زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى منذ أسبوعين لمدينة أسوان وإعلانه استئناف العمل بمشروع توشكى الذى كان رئيس الوزراء الراحل الدكتور كمال الجنزورى متحمسا له الكثير من الذكريات فى ذهنى. هذه الذكريات لها بعدها الشخصى ولكنها تتناول تفاصيل المجهود البحثى حول هذا الموضوع والذى قام به مركز دراسات وبحوث الدول النامية فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة الذى كنت مديرا له (١٩٩٤ ــ ٢٠٠٤). ولهذه التفاصيل أبعاد مهمة قد يكون من المفيد أن يعرف بها من يقومون بإدارة هذا المشروع فى الوقت الحاضر. كنت أعرف عن هذا المشروع وقتها فى سنة ١٩٩٧ من الصحف، ولكن ارتباطى به جاء فى أعقاب دعوة تلقيتها للقاء الأستاذ الدكتور على الدين هلال الذى كان عميدا لكلية الاقتصاد فى ذلك الوقت (١٩٩٤ ــ ١٩٩٩)، وهو بحكم منصبه رئيسا لمجلس إدارة مركز دراسات وبحوث الدول النامية. وعلمت منه أنه كان قد عاد من اجتماع مع الدكتور كمال الجنزورى الذى كان رئيسا للوزراء (١٩٩٦ ــ ١٩٩٩)، والذى طلب منه أن تقوم كلية الاقتصاد بإعداد دراسة حول هذا المشروع، ولما كان مركز دراسات وبحوث الدول النامية الذى أديره هو الأقرب لموضوعات التنمية فقد طلب منى الدكتور أن يتولى المركز إعداد هذه الدراسة، واقترحت عليه أن يكون المشروع موضوعا لبحث علمى جماعى نجند فيه كل القدرات الأكاديمية والخبرات ذات الصلة، وهو ما وافقنى عليه، ونظرا لأنه لم تكن لدى الدكتور على ولا لدىَّ أى معرفة واسعة بهذا الموضوع، فقد رجوته أن يعاود الاتصال بالدكتور الجنزورى لكى يمدنا بما لدى الحكومة من بيانات أو دراسات عن هذا الموضوع، وهو ما قام به الدكتور على مشكورا، واتصل بى بعد يومين على ما أذكر ولقيته متهللا وهو يضع بين يدى أربع مجلدات ضخمة عنوانها المشروع القومى لتنمية جنوب الوادى، وهو الاسم الذى جرت الصحف على إطلاقه على مشروع توشكى. ولكن سعادتى بما تصورت أنه بداية موفقة للعمل البحثى الجماعى قد تبخرت بعد عودتى لمكتبى واطلاعى السريع والمدقق فى نفس الوقت على محتويات المجلدات الأربع، فلم يكن بها ذكر على الإطلاق لمشروع توشكى، وإنما دارت كلها حول خطط الحكومة لتنمية جنوب الصعيد وهى محافظات سوهاج وقنا وأسوان دون أن ترد بها كلمة واحدة عن المشروع الذى كان موضع حديث كل أجهزة الإعلام فى ذلك الوقت. وسوف تشرح سطور تالية سبب هذه الحيرة التى تملكتنا، والتى تأكدت عندما عاود الدكتور على الاتصال بمكتب رئيس الوزراء ليعلم أنه لم تكن هناك دراسات أخرى حول هذا الموضوع. وانتهى الأمر بأن عزمنا على القيام بالجهد البحثى المطلوب حتى فى هذه الظروف. وكانت الخطة التى قمنا بتنفيذها هى البدء بجلسات استماع مع أبرز المتخصصين فى موضوع المياه، والتى تصورنا أن تكون العقبة الأساسية فى مشروع استصلاح مساحات واسعة من الأراضى فى مناطق صحراوية، وأن تمهد جلسات الاستماع هذه لمشروع بحثى متعدد الجوانب تقدم خلاصته فى مؤتمر يجمع بين كبار العلماء والمسئولين الحكوميين ذوى الصلة بهذا المشروع.
مشروع توشكى لم تسبقه دراسات
كان المتحدث الرئيسى فى أولى جلسات الاستماع التى نظمناها هو المرحوم الدكتور رشدى سعيد صاحب المعرفة الموسوعية بنهر النيل والمدير الأسبق لمصلحة المساحة، وحضرها عدد محدود من المتخصصين فى قضايا المياه واستصلاح الصحراء والزراعة والاقتصاد، وكان متحفظا تماما على فكرة استصلاح الصحراء باستخدام مياه النيل، وكان من رأيه تعظيم الاستفادة من مياه النيل فى الوادى والدلتا، وتدليلا على حجته دعانا للمقارنة بين عائد استخدام متر مكعب من المياه فى مصر ونفس العائد فى إسرائيل لكى يبين أن الكفاءة فى استخدام المياه وتركيبة المحاصيل هما اللذان يحددان القيمة الناتجة عن استخدام المياه. ثم كان المتحدث الرئيسى فى جلسة الاستماع التالية هو الدكتور محمود أبو زيد الذى كان وقتها رئيس مركز إدارة المركز القومى لبحوث المياه، وكان رأيه على النقيض من رأى المرحوم رشدى سعيد فهو لا يعترض على استصلاح الأراضى الصحراوية، ولم يكن متحفظا على مشروع توشكى الذى تدعو له الحكومة، ولما سألناه بحكم موقعه عما إذا كان يعرف بدراسات أجريت على هذا المشروع، قال لنا إن الأمر المعهود بالنسبة للمشروعات التقليدية هو أن تسبقها دراسات جدوى يتقرر بعدها القيام بها أو العدول عنها، أما مشروع توشكى فهو فى رأيه مشروع غير تقليدى، ومن ثم فالقرار قد اتخذ بشأنه، على أن تتم دراسته أثناء تنفيذه، وقد اندهشنا جميعا لهذا الوضع.
مؤتمر علمى حول توشكى
وكما هى العادة فى كل المؤتمرات العلمية التى كان ينظمها المركز، فقد بدأنا بإعداد تصور حول الموضوعات الجديرة بالدراسة واقتراح أسماء المتخصصين والخبراء الذين يمكنهم إعداد أبحاث حولها، واستقر الرأى على أن يكون هذا المشروع متعدد التخصصات فيشمل قضايا المياه وطبيعة التربة والزراعة والصناعة وطبيعة المجتمعات الجديدة والقيم التى تحركها ونمط الإنتاج وكيفية إدارة المشروع وسبل تمويله، وساعدت الدكتورة عالية المهدى التى كانت مديرا مساعدا للمركز فى وضع الخطة البحثية واقتراح الأسماء ودعوة الباحثين. وعندما اكتملت الأبحاث قررنا عقد مؤتمر لمناقشتها، وأن تتسع الدعوة للمشاركة فى المؤتمر، فلا يقتصر على الباحثين والخبراء وإنما يشمل أيضا كبار المسئولين الحكوميين وعددا من كبار رجال الأعمال. ولذلك شارك فى الجلسة الافتتاحية الدكتور محمود شريف الذى كان وزيرا للتنمية المحلية، وشارك فى أعمال المؤتمر المرحوم المهندس فؤاد أبو زغلة وزير الصناعة سابقا ووقتها رئيس لجنة الصناعة بمجلس الشورى كما قدم نائب رئيس الهيئة العامة للتصنيع بحثا فى المؤتمر. وتحدث فى المؤتمر كل من المرحوم محمود عبدالعزيز الذى كان وقتها رئيسا للبنك الأهلى والدكتور إبراهيم كامل وكان من أبرز رجال الأعمال وثيقى الصلة بالنخبة الحاكمة قبل ثورة يناير. وذلك فضلا عن مديرى عدد من مراكز الأبحاث والأساتذة فى عدد من الجامعات المصرية.
لن أشغل القراء بكل الموضوعات التى ناقشها المؤتمر الذى عُقد على مدى يومين بكلية الاقتصاد، وصدرت أبحاثه والمناقشات التى دارت فيه فى كتاب خرج إلى القراء بعدها بشهور فى سنة ١٩٩٧، وإنما يكفى هنا استعراض أهم الاستنتاجات التى خرج بها هذا المؤتمر والتى يمكن أن تكون عونا لمن يقومون بتنفيذ مشروع توشكى فى صيغته الجديدة.
علامات على الطريق
لقد اتفق كل من شاركوا فى هذا المؤتمر سواء بكتابة الأبحاث أو التعقيب عليها أو بإبداء آرائهم على أهمية الخروج من الوادى الضيق، وضرورة إقامة مجتمعات جديدة فى الصحراء الواسعة المحيطة به توسيعا للعمران البشرى فى مصر.
ولكنهم اندهشوا من عدم وجود دراسات تفصيلية لدى الحكومة حول مشروع طموح للغاية كان يستهدف استصلاح قرابة ثلاثة ملايين فدان واستيعاب خمسة ملايين مواطن ومواطنة وإقامة العديد من المدن. وأكد وزير سابق أن الحكومة لديها بالفعل مشروع لتنمية جنوب الصعيد خصصت له ثلاثمائة مليار جنيه، ووزعت استثماراته بين الصناعة والزراعة والسياحة، وأنه لا يجب الخلط بين هذا المشروع ومشروع توشكى الذى لا توجد له دراسات، وإن كانت الحكومة تنوى اعتماد مائة مليار جنيه كاستثمارات سنوية له، وقدر فترة تنفيذه بعشرين سنة.
كما نبه معظم خبراء المياه إلى أنه إذا كان المشروع سيعتمد أساسا على مياه النيل، وقدروا السحب من مياه السد العالى عبر مفيض توشكى بحوالى خمسة مليارات متر مكعب، فإنه من الضرورى أخذ الأعباء التى سيعانى منها سكان الوادى والدلتا نتيجة توجيه ما يقرب من عشر مياه النيل لهذا المشروع وحرمانهم منها، وخصوصا أنه ليس من المؤكد أن تنجح جهود الاقتصاد فى استخدام المياه وتكرير مياه الصرف وإعادة استخدامها فى التعويض عن هذا النقص، كما أن هؤلاء المتخصصين حذروا من الاعتماد على مخزون المياه الجوفية فى منطقة الواحات التى كان من المقدر أن تدخل فى نطاق هذا المشروع فى الزراعة، ونصحوا بأن يقتصر استخدامها على الوفاء بحاجات الشرب. ودعوا كذلك إلى أخذ أثر المناخ الحار فى منطقة المشروع على تبخر المياه فى الترعة الناقلة لمياه النيل مسافة طويلة فى الصحراء، وأوصوا بأن تنقل المياه فى أنابيب وليس فى ترعة مكشوفة تجنبا لذلك.
ولما لم تكن مصر تعانى من فائض فى الطاقة فى ذلك الوقت عند نهاية القرن الماضى، فقد نبهوا إلى ضرورة أخذ الحاجة إلى الطاقة فى الاعتبار، وشددوا على أهمية الاستعانة بالطاقة الشمسية كمصدر رئيسى فى المشروع.
وقد احتلت قضية أسلوب إدارة الأراضى المستصلحة حيزا واسعا من النقاش، هل تقسم هذه الأراضى إلى مزارع صغيرة تتراوح مساحتها بين خمسة وعشرة فدادين يتولاها صغار المزارعين فى إطار جمعيات تعاونية وتقوم بزراعة محاصيل تغطى حاجات الاستهلاك المحلى؟ أم يعهد بها إلى شركات كبرى تستغلها فى زراعة محاصيل تصديرية؟. قد يفيد تقسيمها بين صغار المزارعين فى اكتساب أعداد كبيرة من المواطنين والمواطنات للإقامة فى هذه المجتمعات الجديدة وتخفيف الكثافة السكانية فى الوادى والدلتا، وهو ما لن يتحقق فى حالة بديل الشركات الكبرى بتكنولوجيتها المتقدمة.
واتفق المشاركون على أن تنفيذ هذا المشروع لا يجب أن يترك فى يد الجهاز الحكومى القائم مثل وزارة الزراعة أو هيئة المجتمعات العمرانية، وإنما فضلوا أن يكون هناك جهاز متخصص متحرر من قيود البيروقراطية يتولى هذه المهمة، ولكن بالاعتماد على قدر واسع من المشاركة من جانب المستفيدين المباشرين من هذا المشروع.
ولكن كانت العقدة الكبرى هى كيفية تمويل هذا المشروع الطموح، على ضوء انخفاض معدل الادخار فى مصر، وأن حصة الحكومة فى استثماراته قاصرة على ٢٠٪ من التكلفة هى نفقة إقامة البنية الأساسية من ترع وطرق ومصادر طاقة، وهو ما يبدو أن المشروع فى صيغته الجديدة يعول أيضا عليه.
دعا المشاركون إلى زيادة نصيب الحكومة فى هذه الاستثمارات، ولم يتوقع لا رئيس البنك الأهلى فى ذلك الوقت ولا رجل الأعمال البارز أن يغطى القطاع الخاص فى مصر فجوة الاستثمار التى تبلغ ٨٠٪ من استثمارات المشروع، ودافع كل منهما عن ضرورة اجتذاب الشركات الدولية لتعويض هذا النقص، وهو بديل قد لا يحقق بسبب تكنولوجيتها المتقدمة اجتذاب أعداد كبيرة من المواطنين للإقامة فيه، كما أثار آخرون التخوف من أن يفتح ذلك الباب لنوع جديد من الاستعمار.
هل يستفيد مشروع توشكى فى صيغته الجديدة من هذه الملاحظات؟
تلك هى ذكرياتى عن النقاش العلمى الذى أثاره مشروع توشكى عندما دعا له الدكتور الجنزورى فى ظل الرئيس الأسبق حسنى مبارك فى نهاية تسعينيات القرن الماضى. وليس من المعروف ما إذا كانت مثل هذه التحفظات هى التى دعت مبارك للتخلى عن هذا المشروع، والذى كان متحمسا له أشد التحمس فى بدايته، ولكنها تحفظات جادة أتمنى أن يأخذها فى الاعتبار المسئولون عن هذا المشروع فى نسخته الجديدة.