فى أقل من شهر أشعل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أوار حرب تجارية عالمية أبدت الصين استعدادها لخوضها بقوة، وألهب الداخل الأمريكى بفضائح سياسية وشخصية مستمرة واكبها تفريغ للبيت الأبيض من عناصره الفاعلة، كما تخلى عن كبير مستشاريه الاقتصاديين، وأطلق تغريداته يتوعد روسيا بهجمات صاروخية ضد دولة عربية، وتأثرت سلوكيات المستهلكين والمستثمرين حول العالم بهذا التيار العنيف الدافق من الأحداث والأخبار، وما ينطوى عليه من مخاطر.. ثم اختتم أسبوعا عصيبا لم يخل من جلسة استماع مثيرة للجدل فى مبنى الكابيتول الأمريكى وقف خلالها «مارك زوكربيرج» مؤسس وصاحب موقع التواصل الأشهر فيسبوك متهما بتسريب بيانات المستخدمين للموقع لجهات قامت بتوظيفها لأغراض انتخابية أثرت فى نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية فى الأساس.. اختتم هذا الأسبوع الساخن بضربة ثلاثية على ما وصف بأنه أهداف كيماوية فى سوريا اشتركت فيها المملكة المتحدة وفرنسا! هذا السيرك الحى الذى نعيشه ليس وليد المصادفة، ولكنه صناعة متقنة لتيارات من المعلومات يدرك الرئيس الأمريكى قدرتها على إعادة تشكيل الأسواق، وتكوين الأسعار فى بورصات السلع والخدمات والأوراق المالية.
«ترامب» الذى وصفه المحللون بأنه ينتمى إلى الفكر الاقتصادى للتجاريين، نظرا لهوسه بميزان التجارة الأمريكى وضرورة تحقيقه لفائض مع أهم شركاء التجارة، عرف منذ الأيام الأولى لانطلاق حملته الانتخابية باهتمامه البالغ بحركة الأسهم، كما إنه لا يكاد يتوقف عن التشدق بإنجازاته الاقتصادية المتمثلة فى ارتفاعات مؤشرات الأسهم الأمريكية لمستويات قياسية! ولم تخل تغريدات الرئيس الأمريكى الوفيرة من اتهامات ومناوشات ضد شركات بعينها، بما كان له أثره على حركة أسعار أسهم تلك الشركات والمؤشرات القطاعية التى تنتمى إليها.. «ترامب» يدرك ما تصنعه دعايته، يؤمن بأن الدعاية التى يجيد صناعتها كان لها الفضل فى اعتلائه أكبر كرسى حكم فى العالم، فلماذا لا يخلص إلى تلك الأداة الدعائية الفاعلة إن هو أراد تحقيق أهدافه فى الحكم؟
***
الشرق الأوسط الذى بات حديقة خلفية لتجارب السلاح وتنشيط مبيعاته، ومسرحا لاستعراض القوى بين الكبار، ومتجرا لبيع سلعة رديئة للتعاطف المدعى مع ظروف لا إنسانية يعيشها ساكنوه، ومعملا لصناعة وتفريخ الإرهاب الذى تتصل صناعته بتشكيل موازين القوى وتجارب السلاح آنفة الذكر.. تطور الغرض منه ليتضمن حوضا لتبريد النفايات الساخنة التى يطلقها الكبار فى هيئة دعاية وتهديدات وتغريدات.. ولا عزاء للبشر الذين صاروا أهون على مطلقى القذائف من فئران المعامل.
صواريخ الدول العظمى الثلاث فرضت صمتا كئيبا على حالة الصخب التى أنشأها الرئيس الأمريكى خلال الأسبوع الماضى، وظن البعض أنه خرج منها منهزما مكسوا بالخزى بينما تحققت له منها أغراض اقتصادية جزئية لا يدركها الكثيرون. وضعت نهاية درامية لمعركة تجارية أمريكية ــ صينية أنهاها الرئيس الأمريكى بالحديث عن المصالح المشتركة للبلدين وعلاقة التعاون والصداقة بينهما والتى ربما تقود إلى إلغاء جميع القيود الجمركية البينية! وكانت تلك المعركة قد تسببت فى تخفيض منظمة التجارة العالمية توقعاتها لنمو التجارة خلال العام الحالى بنحو 0.3% مقارنة بالعام 2017 الذى نمت خلاله أحجام التجارة العالمية بمعدل 4.7%.
كذلك فرضت الصواريخ المنهمرة على سوريا صمتا على برامج التحليل لجلسة الاستماع مع «زوكربيرج»، وأربكت أحاديث النميمة التى تجزم بدور روسى فى فوز «ترامب» بالرئاسة، خاصة وقد ألقيت الصواريخ ضد إرادة روسيا وتحديا لرئيسها وتفعيلا لتهديد «ترامب» له! وأكدت على أن مصداقية الوعيد الأمريكى فى رسائل الرئيس النصية على موقع تويتر (على خفتها وسطحية مضمونها) أهم من انتظار نتائج التحقيقات الدولية للتأكد من استخدام السلاح الكيماوى من قبل النظام السورى من عدمه، وأهم من إصدار قرار أممى بالتحرك العسكرى.
***
العدوان الثلاثى أعطى إشارات للأسواق تستجيب لها أسعار خام النفط والمعادن وأسهم الشركات العاملة فى مجالات تتصل بصناعة السلاح، وأخرى تتصل بقطاعات الإنشاءات والبنية الأساسية والسياحة والطيران.. فى إطار التنبؤ بأثر بعض الأحداث على اتجاهات الأسعار وأى سلسلة زمنية من البيانات هناك ما يسمى بدالة الاستجابة للصدمات، تلك التى تتنبأ بحجم واتجاه أثر الحدث أو القرار أو الخبر على سلسلة البيانات. دوال الاستجابة للصدمات التى أحدثها الضجيج الأمريكى المصطنع، والقصف الثلاثى لسوريا تنبأت بالتأكيد بحركة مقصودة فى أسعار السلع والخدمات والأسهم والسندات والمشتقات على نحو يحقق مصالح أطراف بعينها، عندها فقط يتخذ القرار بصناعة تلك الصدمات وهندستها على نحو يمكن معه احتواء آثارها السلبية سريعا قبل أن تخرج عن السيطرة. تظل المخاطرة كبيرة أن تتطور الصدمة لتحدث أثرا عنيفا واستجابة سريعة غير متوقعة من قبل قوى عظمى يمكنها أن تشعل حربا لا يريدها أحد. هنا فقط نفهم كيف يكون تصدير صورة رعناء عن الرئيس الأمريكى أمرا حميدا، إذ يمكن نزع فتيل أى أزمة يشعلها بحجة رعونته التى تتدخل مؤسسات الدولة لضبطها تماما كما فعل مجلس الأمن القومى الأمريكى عقب تغريدات ترامب عن الصواريخ الذكية «الجميلة» التى يعتزم إطلاقها على سوريا متوعدا الجانب الروسى! ثم ما لبث أن عدل من تصريحاته بعد الاجتماع بالمؤسسة المنضبطة، وكان التحرك الجماعى المرشد بالتعاون مع الحليفين البريطانى والفرنسى حلا لأزمة كان من الممكن أن تخرج عن السيطرة بشكل خطير.
***
ما أريد أن ألفت النظر إليه فى هذا المقال ليس هوسا بنظرية المؤامرة التى لا ينفى أحد وجودها، ولكن مقصود المقال يرتكز على حقيقة الدور الخطير الذى يمكن أن تلعبه المعلومات فى تشكيل حياتنا. الإشارات والصدمات والدعايات التى نحسبها عشوائية ونظن أنها تمهد لنهاية العالم الرشيد نسبيا كما نعرفه! ربما لا تعدو أن تكون منتجا جديدا يتم برمجته بدقة لإحداث آثار اقتصادية بعينها تجنى مليارات الدولارات لشركات ومؤسسات فى بضع ساعات، وتكبد أطرافا أخرى مليارات كثيرة. هذه البرمجة تحولت من كونها سلوكا إجراميا تناولته بعض أفلام هوليوود على نحو مشوق، إلى منتَج حكومى يحظى برعاية رئاسية، ويعد واحدا من أهم الشمائل التى يراها «ترامب» فى نفسه كلما أغار برسائله النصية على مواقع التواصل مثيرا للجدل واللغط.
انشغلنا فى مصر خلال الأيام الماضية ومعنا الكثير من دول العالم بتحد «الحوت الأزرق» الذى هندسه متخصص روسى فى علم النفس ليودى بحياة عدد من الأطفال، بعد أن يسيطر عليهم ويفسد قدرتهم على اتخاذ قرارات سليمة، ولم ننتبه إلى أن حيتانا زرقاء تنطلق طوال الوقت فى الفضاء الإعلامى وعلى صفحات الإنترنت لتؤثر فى نفسية الأفراد وعلى قرارات المؤسسات بصورة تشبه الانتحار الجماعى. ربما لا نرى تلك الحيتان على حقيقتها لأننا نخوض هذا التحدى دون أن نشعر، كأننا نلعب لعبة خطيرة تم برمجتها سلفا لنسقط ضحايا لها طوال الوقت.
لا جديد فى استعانة كبرى شركات التسويق فى العالم بخبراء علم النفس من أجل التحكم فى سلوك المستهلكين وتوجيه قراراتهم الشرائية، لكن الجديد هو خلق عالم افتراضى مكتمل الأركان يعيش فيه الناس وكأنهم أبطال فيلم المصفوفة The Matrix وبرمجة عدد من الصدمات يتحرك الأفراد والمؤسسات والدول استجابة لها وهم مسلوبو الإرادة، ويحسبون قراراتهم حرة مستقلة. هوس الدول الكبرى بالسيطرة على العالم امتد ليضع دولة عظمى مثل روسيا موضع اتهام بالتلاعب فى إرادة الناخب الأمريكى لدى اختياره رئيس البلاد! وجعل الرئيس الأمريكى الجديد يقود معملا لصناعة الإشارات والصدمات المؤثرة فى حركة الأسواق جميعا بغية تحقيق مكاسب وعائدات موجهة فى مقابل خسائر يتكبدها البعض الآخر بذات الكيفية التى ينظر بها التجاريون إلى المعادلة الصفرية للتجارة الدولية، خلافا للمنطق الكلاسيكى الذى يرى فيها مكسبا لطرفى عملية التجارة.