يعيش الأمريكيون لحظة كذبة كبرى. رئيسهم يكاد لا يتوقف عن الكذب. من فرط الانبهار راح البعض منهم يسجل تفاصيل هذه اللحظة العظيمة من تاريخ أمريكا. راح يجمع كذبات الرئيس، يحصيها ويصنفها ويجملها ثم يتصرف وفقا لها وفى النهاية يفخر بما حققت بلاده من إنجازات بفضل هذه الكذبات. راح هذا البعض يهنئ البعض الآخر بحقيقة، وهذه واحدة من أقوى كذبات الرئيس، أنهم عاشوا هذه اللحظة المجيدة. نشروا أخيرا ــ تعزيزا لفرحتهم ــ إحصائية يتأكد منها أن دونالد ترامب أطلق أكثر من 9000 كذبة خلال 802 يوم قضاها رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، وإحصائية لجهة أكاديمية أخرى تؤكد أن الرئيس يطلق يوميا وفى المتوسط 22 كذبة. الرئيس قدوة. فى أمريكا ترامب قدوة. تصوروا معى أمة عاشت أكثر من سنتين، وأمامها عامان مثلهما وقد يضاف لهما أربعة أعوام أخرى، يجرى تلقينها يوميا قيمة الكذب فى إدارة وتسيير شئون مواطنيها.
***
الكذبة عند ترامب وعند كثيرين من عشاق الكذب حقيقة مثل كل شىء آخر. ترامب ساعة جلوسه مع السكرتير العام لحلف الناتو كان يعتقد فعلا أن أباه ولد فى ألمانيا وفى منطقة رائعة الجمال كما قال. لم يخطط ليكذب. لا ينفى أن أباه ولد فى نيويورك فهذه حقيقة أخرى. وقد تأتى مناسبة يعتقد خلالها أن أباه ولد فوق جبل صهيون أو على ضفة نهر الفولجا. ولا أظن أنه كان يعرف أنه يكذب حين وقف يعبئ الناس ضد أفكار وممارسات تدعو إلى التوقف عن استخدام الوقود المولد لانبعاثات الكربون. قال يومها وفى اجتماع لقادة المال والأعمال فى الحزب الجمهورى، أى لصفوة أمريكية متميزة، إن طواحين الهواء المستخدمة فى توليد الطاقة المتجددة تصدر أصواتا تتسبب فى الإصابة بالسرطان. رأيت المشهد ورأيت الصفوة تصفق. مرت لحظة أذكرها جيدا غمرنى فيها الذهول. هؤلاء المصفقون سوف ينشرون فى بيوتهم والشركات العملاقة التى يقودونها هذه الحقيقة التى اكتشفها واختصهم بها السيد رئيس الدولة. لن يكونوا من الكاذبين عندما يقومون بنشرها فالرئيس موجود فى منصبه لينطق بالحقيقة وما جاء إلى الحكم إلا ليحمى الحقيقة. هذا الرئيس نفسه لم يكذب عندما أعلن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل فقد سبقته إلى إعلانها الأسطورة، ولم يكذب عندما أعلن الجولان أرضا إسرائيلية، فقد سبقه إلى هذا الإعلان صمت القادة العرب لعقود عديدة وإقبال أكثرهم على التفريط فيما يرثون وفيما يوكل إليهم من أمانات.
***
نحن أيضا نكذب. رأيت أطفالا تكذب. جرب وراقب عن بعد أطفالا فى سن الثانية أو الثالثة لم يجربوا بعد الخوف أو التهديد بالعقاب لتكتشف أنهم يخلطون الكذب بالحقيقة. يكذبون لأن الكذب، كالحقيقة أحيانا، قد يجنبهم النوم المبكر أو يسمح لهم باللعب بأشياء أبعد أو أكثر مما بين أيديهم. نحن أيضا نقص عليهم روايات وقصص خرافية، وهم يدفعوننا إلى ترديدها على مسامعهم. إنها الكذب بعينه. نمارسه معهم ونشجعهم على التعامل معه بثقة فهو صادر عن من يثقون فيه ويأمنون جانبه. أنا الآن وقد تجاوزت أغلب العقود المفترض تجاوزها، مازلت أثق فى أن الحواديت التى استمعت إليها وأنا طفل بين الثالثة والسادسة من عمرى، ابتداء من الشاطر حسن وانتهاء بأمنا الغولة، لا تزال تمثل أحد أهم مكونات ملكة التأليف وخصوبة الخيال عندى. أم فاطمة التى كانت تزورنا مرة كل شهر وتقضى بيننا ليلتين أو ثلاث لا تختلف عندى كثيرا عن هانز أندرسن، كلاهما أسس للكذب فى عقول أطفال عديدين وغرس فيهم الميل للكذب وشجع أهاليهم على القبول به قيمة من القيم الضرورية لبناء الشخصية والقدرة على الابتكار.
***
سبقتنى إلى ممارسة الدبلوماسية كمهنة سمعة الغموض والميل للصمت واللهفة على الإنصات. هذه السمات وسمات أخرى اكتشفت أهميتها خلال العمل الدبلوماسى. وقتها أدركت أن الميل إلى الصمت فى أحد جوانبه رغبة مكبوتة لممارسة الكذب، وفى جانب آخر هو ممارسة فعلية للكذب. نعود إلى الأطفال لأذكركم برد فعلنا لطفل طال صمته. أغلبنا فى الغالب كان سيقرر أن الطفل يدبر شيئا يريد إخفاءه أو أن فكرة غير عادية فى عقله لم تختمر بعد أو غير جاهزة لإعلانها. صمت الدبلوماسى التفاف على واقع بعينه أو ممارسة جادة فى جمع معلومات وتركيبها لتفيد فى صنع حقيقة جديدة.
فى كل الحالات أعتقد أن الصمت فى المفاوضات والحوارات والحزازات الكلامية، حتى العائلية، لا يخرج عن كونه نوعا مختلفا أو درجة أخرى من درجات الصدق والكذب. لا يعنى هذا العرض قبولنا بالاتهام الملتصق تاريخيا بالدبلوماسية واعتبار الكذب مكونا من أهم مكوناتها وشرطا من أهم الشروط الواجب توفرها فى الدبلوماسى. الدبلوماسيون، فى أغلب مراحل تطور مهنتهم، كانوا كالرسل ينقلون رسائل. مضمون هذه الرسائل لم يصنعوه وفى الغالب لم يشاركوا فى صنعه. وبالتالى هم أبرياء من تهمة الكذب المتضمن فى هذه الرسائل وإن كانوا مذنبين بتهمة نقل الكذب. السياسى يصنع الكذب والدبلوماسى ينقله. قارن بين مهام جون بولتون رئيس مجلس الأمن القومى وجاريد كوشنر ودونالد ترامب من ناحية ومهام مايك بومبيو وأسلافه من وزراء الخارجية المستقيلين خلال العامين الماضيين من ناحية أخرى.
***
الكذب على النفس أهم وأخطر من الكذب على الغير. نقلوا عن فريدريك نيتشه قوله ما معناه أنه لا ينزعج لأن شخصا كذب عليه ولكنه ينزعج لأنه لن يصدق هذا الشخص بعد ذلك. أكثرنا يعرف أن أغلب الشك فى علاقة زوجين مصدره الكذبة الأولى معتقدين خطأ أن الكذب فى هذه العلاقة الحميمة جدا هو كذب على النفس. واقع الأمر هو أن الكذب فى هذه الحالة يتسبب فى نقص فى احترام الشخص لذاته ولعله الدافع وراء الاستغراق فى الكذب وليس العدول عنه. أتساءل كثيرا عن حقيقة مشاعر السيدة ميلانيا وهى تستمع إلى كذبات زوجها على امتداد اليوم. رأينا فى بعض الصور الإعلامية ما يجيب جزئيا عن تساؤلاتنا. رأينا يدها تلفظ يده كلما اقتربت منهما كاميرات التصوير. لا أصدق أن يقوم احترام فى علاقة بنيت على الكذب. تبقى العلاقة لأنها ربما تحقق رغبات أو تراعى تقاليد وظروفا، تبقى كعلاقة ترامب بشعبه وأقرانه فى العالم الخارجى، فاقدة الصدق والاحترام والثقة.
***
أتخذ من المذكرات السياسية موقف الحذر. لا أتهم أحدا بالكذب. ولكنى أفترض أن صاحب المذكرات كذب ذات يوم، ولم أعرف سياسيا لم يكذب، ثم دافع عن كذبته بكذبة أخرى. وحين جلس ليكتب مذكراته بعد عمر طويل تعامل مع كذبته الكبرى وربما مع كذبات كثيرات كحقائق. صدق نفسه. أعرف أصحاب مذكرات آخرين كتبوا أمورا باهتة مبتعدين ما استطاعوا عن القضايا الحساسة وعن كذباتهم التى فرضتها عليهم ظروف العمل السياسى. هؤلاء مع أولئك الذين أصروا على رفض نصائح وشروط جهات النشر لم يبيعوا سوى العدد المحدود من النسخ. لم يفدهم صدقهم مع الذات.
أحيانا أكتب حكايات من الماضى. أتعمد تفادى التصريح بأسماء أشخاص، وهم حقيقيون، فى الحكاية. ما أفعله هو نوع أو درجة من الكذب تماما كالصمت المطبق فى حوار أو تفاوض، عملا بالقاعدة التى تنص على أن الصمت إذا حل محل الحقيقة صار نوعا من الكذب. لا يغفر ذنبى اقتناعى بأن ما أقصه على لسان أحدهم ربما بدأ مندسا على خيالى ثم تحول بالسرد المتكرر إلى حقيقة أنا شاهدها الوحيد.