أغلب محاولات فهم ظاهرة الجهاد التكفيرى العنفى ركزت على خلفياتها وأسبابها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وانتهازيتها السياسية. لكن قليلة هى الكتابات عن الخلفيات والأسباب النفسية.
ذلك أن كثيرا من الممارسات الجنونية، المتعارضة مع التوازن العقلى والروحى ومع القيم الإنسانية، التى لا يمكن أن يفسرها المنطق أو الدين، والتى يرتكبها يوميا بحق الأبرياء أفراد وجماعات الجهاد الإسلامى التكفيرى، لا يمكن أن تفسرها إلاُ مختلف النظريات والافتراضات التى قام عليها علم النفس.
إن أب ومؤسس علم النفس، سيجموند فرويد، خلُص إلى أن الجزء الواعى من تصُرفاتنا العقلية ليس أكثر من رأس جبل جليدى فى مياه بحر أو محيط. أما الجزء اللاواعى، الذى يحدُد عملياتنا العقلية الواعية ويهيمن عليها ويوجُهها، فإنه هو الذى يمثل الجزء الأكبر من جسم الجبل الجليدى الذى يبقى غير مرئى تحت سطح الماء. وإذن فجزء اللاوعى هو أساس شخصيتنا وتصُرفاتنا مع محيطنا.
ما يهمنا بالنسبة لموضوعنا هو ما أسفرت عنه دراسات تكوُن ذلك اللاوعى الغامض، سواء من قبل فرويد أو العديد من كبار علماء النفس الآخرين، والتى أظهرت أن فى الإنسان نوازع حيوانية متوحُشة وغرائز عدوانية وأحاسيس داخلية تهيئه ليصبح قاتلا وعنيفا ساديًا، ولتصبح الجماعة مدمُرة شيطانية. فى ذلك المكان من نفس الإنسان، المظلم الملىء بالأسرار والتناقضات، تقبع غريزتا الحياة والموت جنبا إلى جنب.
وإذن فإن تلك النوازع والغرائز والأحاسيس المدمُرة القابلة للانفجار فى أية لحظة، تحتاج إلى معايير ووسائل ضبط لها من مثل ضوابط القيم الثقافية أو سلطة القانون أو أعراف المجتمع، أو أنها تحتاج إلى تحليل وعلاج نفسى لإخراجها من ظلام اللاوعى المريض إلى نور الوعى العقلانى المتشافى.
السؤال الأساسى هو: ما هو الدور الذى يلعبه الشحن الدينى اللاعقلانى المتزمُت، المنطلق من فهم خاطئ للقرآن والأحاديث النبوية والتراث الفقهى، فى تأجيج وشيطنة أسوأ ما فى منطقة اللاوعى تلك، وفى قلب الإنسان من إنسان معقول أخلاقى سوى إلى إنسان حيوانى متوحش وشرير؟
وبالطبع يمكن قلب ذلك السؤال إلى سؤال آخر معاكس: هل أن كل ما فى منطقة اللاوعى من أحاسيس ورغبات خطرة تنفجر عند الجهاديين من وراء قناع الدين، وباسم الدين، حتى لا يشعر هؤلاء بالخزى والعار جراء تصرُفاتهم؟ أى، هل أن الدين استعمل لإزالة كل العوائق والمحددات الثقافية والقانونية والأخلاقية التى فرضها التحضُر على الإنسان من أمام الغرائز لتعبُر عن نفسها بلا رقيب أو حسيب؟ إذن، من الذى يستعمل من؟ الدين الخاطئ يستعمل كل ما فى منطقة اللاوعى لتبرير وجوده ونشر تعاليمه وتحقيق الأغراض الدنيوية لقادته على الأخص، أم اللاوعى يستعمل صفاء الدين وسمو مكانته فى عقول وأرواح البشر من أجل تبرير انفجاراته المجنونة اللاعقلانية؟
أيا تكون الإجابة على السؤالين تبقى فرضية الارتباط الوثيق بين ظاهرة الجهاد الإسلامى التكفيرى الإرهابى المجنون فى كثير من تصرفات قادته وأتباعه وبين الكثير من الفرضيات والتفسيرات لعلم النفس الحديث.
هذا الارتباط يفسر إلى حدُ ما ما لاحظه الكثيرون: انخراط جزء من الشباب فى حركات الجهاد التكفيرى ورفض جزء من الشباب الانخراط، مع أنهم يعيشون فى نفس البيئة ويعانون من نفس المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. نحن أمام قابلية نفسية عند البعض وعدم قابلية نفسية عند البعض الآخر.
هنا نصل إلى استنتاج أساسى: لقد استعملت فرضيات ودراسات علم النفس بشأن وجود أحاسيس وغرائز مكبوتة فى منطقة اللاوعى عند الإنسان.. استعملت فى شتى الحقول، من مثل السياسة لتحسين صورة الأحزاب والأفراد أثناء الانتخابات، أو من مثل الاقتصاد فى الترويج لبعض البضائع، أو من مثل الحقل العسكرى لإقناع الجنود بالموت فى سبيل الوطن.
فالغريزة الجنسية المكبوتة جرى إيقاظها واستعمالها لبيع الثياب والسيارات والعطور والسجائر وغيرها. وغريزة العنف المكبوتة جرى التلاعب بها من قبل الحركات الفاشية لإثارة كره هذه الجماعة أو تلك. وغريزة الموت المكبوتة جرى الاستفادة منها لجر الشعوب إلى مغامرات عسكرية عبثية.
إنها قصص طويلة لاستعمالات انتهازية ونفعية، وأحيانا تدميرية مفجعة، لكل ما توصل إليه علم النفس الحديث. والغريب أن بعضا من أفراد عائلة مؤسس علم النفس هم الذين لعبوا أدوارا بارزة فى الاستعمالات الخاطئة الانتهازية المضرة لعلم النفس، وخصوصا فى عالمى التجارة والسياسة. لقد ساهم هؤلاء فى إيقاظ الرغبات المكتوبة وفى خلق الرغبات الجديدة وفى استعمال الرغبات من أجل المصالح النفعية.
وإذن لن يكون غريبا أو بعيدا أن جزءا مهما من لعبة الجهاد التكفيرى المجنون هو استعمال الدين لتأجيج الرغبات المكبوتة ولخلق رغبات جديدة، حتى ولو كان ذلك الدين المستعمل لا دخل له مع دين الإسلام، بمقاصده القيمية الكبرى، وتحريره للإنسان من كل أنواع العبودية، ودعوته للمساواة والرحمة والسلام.
هذا موضوع يحتاج لأن يدرسه ويقيُمه علماء النفس العرب ليكتمل فهم هذا الجنون الذى أدخل العرب فى جحيم تاريخى مرعب ومدمُر.