شهدت العلاقات الدولية خلال السنوات الأخيرة عددا متزايدا من عمليات تحريك إن لم يكن تغيير السياسات الخارجية لدول كثيرة. ففى الشرق الأوسط وقع التغيير بسبب ثورات الربيع سواء فى دول الثورة أو المناهضة لها. نتابع الآن مصر والسعودية، وهما تحاولان مثلاً جس النبض فى روسيا، ونسمع عن اجتهادات إسرائيلية فى مجال إعادة صياغة منظومة سياستها الإقليمية، ونرى باكستان وهى تحاول فتح أبواب كانت مغلقة لعقود عديدة مع موسكو، كذلك الهند نراقبها بكل الانتباه، وهى تجرب حظوظها مع الولايات المتحدة لتعويض ما فاتها من مزايا فى التسليح عالى المستوى والتخطيط الاستراتيجى لمنطقة جنوب آسيا.
لن نستطيع فى وقت قصير تقدير العائد الذى حققته هذه التجارب لتحريك أو تغيير السياسات الخارجية، فالفترة التجريبية الراهنة ما زالت بسيطة، والعائد الظاهر لنا حتى الآن لا يزال مرتبكا أو على الأقل غير واضح، وهو ما يثير مخاوف أن تنتهى بعض التجارب إلى حال الشلل التام إذا تناقضت أو تصادمت مسارات التحريك، ويحضرنى بشكل خاص حالة الهند، وربما حالة المملكة العربية السعودية.
•••
كنموذج بارز لهذه التجارب فى توجهات السياسة الخارجية، عقدت فى روسيا وبالتحديد فى مدينة أوفا بمنطقة الأورال، قمتان الواحدة بعد الأخرى. انعقدت قمة مجموعة دول البريكس، وهى البرازيل وروسيا والهند والصين، وجنوب أفريقيا. كانت هذه القمة هى السابعة منذ إنشاء المجموعة وكان المتوقع أن تلفت انتباها واسعا فى كل الأنحاء، فهى القمة التى تدشن هذا العام مصرف التنمية، الذى يفترض أن ينافس البنك الدولى للإنشاء والتعمير و«يحرر» اقتصادات دول نامية عديدة من هيمنة القوى الغربية، كما أنها القمة التى تناقش بكبرياء وفخر الإنجازات الكبيرة التى حققتها الاستثمارات الصينية فى مجالات البنية التحتية وبخاصة طرق المواصلات وتشييد الموانئ، والأرقام الكبيرة للاستثمارات الصينية فى روسيا بعد أن تضاعفت مرتين ونصف المرة خلال عام واحد، وهو العام الذى بلغت فيه العقوبات الغربية مع روسيا أقصى درجاتها. لا غرابة والأمر على هذا النحو أن تحظى هذه القمة بأدنى درجة من الاهتمام من جانب معظم العواصم الغربية بل كاد الإعلام الغربى يتجاهلها تماما. هذا التجاهل الذى جرى تفسيره على أنه محاولة لإجهاض مساعى إدارة بوتين التصدى بانعقاد هذه القمة لضغوط الغرب وتهديداته وعقوباته.
على كل حال، لن يكون فى استطاعة دول الغرب والإعلام الغربى بشكل عام الاستمرار فى هذا النهج من التعامل مع الصعود المتتالى لمجموعة البريكس فى الساحة الدولية. صحيح الرأى السائد فى الغرب بأن النمو فى دول هذه المجموعة تباطأ أخيرا، وصحيح فى الوقت نفسه الرد بأن النمو فى العالم كله تباطأ وليس فقط فى دول البريكس. الأهم فى واقع الأمر وفى وجهات نظر بعض الرؤى المستقبلية هو حقيقة أن هذه المجموعة من الدول مازالت تؤكد سعيها لرفض هيمنة الغرب على الاقتصاد العالمى، وأنها تعمل جديا ضد هذه الهيمنة، علما بأن هذه المجموعة تضم الآن أكثر من ٤٠٪ من سكان العالم، وتنتج ما نسبته ٢٥٪ من مجمل الناتج العالمى. لذلك كان لافتا للنظر التغير فى نبرة الخطاب السياسى الروسى. وبخاصة عند الحديث عن عدم حاجة روسيا إلى مباركة أو حتى رضاء، دول الغرب لتصدرها قيادة مجموعات تضم أعدادا متزايدة من الدول المتمردة على هيمنة مؤسسات بريتون وودز على الاقتصاد العالمى.
•••
انعقدت قمة مجموعة شنغهاى بعد ساعات من اختتام أعمال قمة البريكس. حملت هذه الدورة مغزى معينا يستحق الانتباه، وهو أن فلاديمير بوتين، قرر بدوره التحول شرقا بسياسة روسيا الخارجية وقوائم أولوياتها الاستراتيجية، تماما كما فعل الرئيس باراك أوباما بالسياسة الخارجية لأمريكا واستراتيجيتها العالمية. يبدو لنا أن الدوافع وراء هذا التحول قوية. أولها وأهمها حقيقة أن الصين تزداد قوة ومكانة وتتوسع نفوذا واستثمارات فى شرق آسيا ووسطها، وحقيقة أن أمريكا القطب الأكبر فى النظام الدولى والقائد الفعلى لمعسكر العداء ضد روسيا تحولت فعلا باهتماماتها شرقا للسبب نفسه. من هذه الدوافع أيضا، قضية أمن وسط آسيا، وهى القضية التى أصبحت تفرض نفسها على الاستراتيجيات الدفاعية الروسية والصينية فى آن واحد، لسببين، أحدهما اقتراب رحيل القوات الغربية من أفغانستان واحتمال عودة أفغانستان إلى أحضان وشرور الحروب الأهلية، ثانيهما هو الخوف الواقعى من احتمالات تمدد قوى الإسلام المتطرفة، مثل تنظيم داعش وأخواته، وإرسائها قواعد جديدة فى أفغانستان تهدد منها بقية دول وسط وشرق آسيا الأعضاء فى منظمة شنغهاى، وتقيم تحالفات إرهابية مع قوى إسلامية روسية فى القوقاز وخارجه.
•••
استجد واقع جديد يحرض روسيا على تنشيط مجموعة شنغهاى ودعم خطوات التحول نحو الشرق، وهى الحاجة الاستراتيجية الحاسمة لدى كل من روسيا والصين، إلى وضع النزاع الهندى الباكستانى تحت رعاية نظام أمنى جديد لإقليم وسط آسيا. الأمل كبير ومتصاعد لدى القيادات الصينية والروسية فى أن النقص الواضح فى الثقة بين باكستان والهند يمكن تعويضه أو تخفيف ضرره بإدماج الطرفين فى نظام أمنى جديد، تضمنه وتقوده روسيا والصين. الخوف كل الخوف لدى هذه القيادات من أن يتفاقم الصراع بين الدولتين فى أعقاب رحيل القوات الأجنبية من أفغانستان حين تقرر حكومة باكستان ضرورة تقنين، وتثبيت نفوذها السياسى فى أفغانستان وتقرر حكومة الهند أهمية تأكيد نفوذها الاقتصادى فى هذه الدولة. هذا الصراع لو ترك ليحتدم قد يهدد استقرار بقية دول وسط آسيا الإسلامية ويهدد سلامة قواعد روسيا العسكرية فيها ومشروعات طريق الحرير التى تقيمها الصين، ويهدد أيضا حلم بوتين إقامة نظام اقتصادى إقليمى لمنطقة أوراسيا، بقيادة روسيا.
•••
لا يفوتنا أن منظمة شنغهاى التى أنشئت عام ٢٠٠١ كان من بين أهدافها تنسيق النشاط الصينى والروسى فى منطقة وسط آسيا لمنع تضاربه خاصة أن لدى الدولتين مشروعات طويلة الأمد تمس مباشرة مستقبل الدولتين ومكانتهما الدولية. لروسيا مثلاً مصلحة أساسية فى تثبيت دعائم مجموعة »أوراسية»، وللصين مصلحة أساسية أيضا فى تثبيت دعائم وتنشيط خطوات مد شبكة طرق الحرير وإقامة مشاريع صناعية وإنتاجية وثقافية متكاملة على ضفاف هذه الطرق إن صح التعبير.
من أهداف منظمة شنغهاى أيضا مطاردة النفوذ الأمريكى من منطقة وسط آسيا، وصولاً إلى يوم لا تجد فيه السياسة الأمريكية متسعا لها على أراضى دول وسط آسيا لإقامة قواعد وتسهيلات تستطيع من خلالها فرض حصار على أى من روسيا أو الصين. كان الهدف الثالث، فيما اعتقد، هو إقامة نظام أمنى وسط آسيوى يحقق السلم فى المنطقة ويحل المشكلات الحدودية والتاريخية بين دول الإقليم، على أمل أن يتحول فى المستقبل إلى نظام دفاعى متكامل.
•••
لا خوف، حسب الظن، من أن يتحول نظام أمنى من هذا النوع إلى »حلف وارسو آسيوي« أشبه بحلف وارسو الأوروبى، ففى حلف وارسو لم توجد دولة «عظمى» أخرى شريكا لروسيا السوفييتية فى قيادة الحلف. لن تكون الصين، فى أى حال من الأحوال، عضوا عاديا، بل شريك قيادة وبتطلعات تتجاوز حدود قارة آسيا إلى قارات أخرى، وهى التطلعات التى لا أعتقد أنها يمكن أن تتسلل فى الأجل المنظور إلى شبكة أحلام الرئيس بوتين والنخبة الحاكمة فى روسيا.