تبرئة الشام من دم الحريرى - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:53 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تبرئة الشام من دم الحريرى

نشر فى : الخميس 16 سبتمبر 2010 - 9:48 ص | آخر تحديث : الخميس 16 سبتمبر 2010 - 9:48 ص
كنت شاهدا على رد فعل الشارع اللبنانى للتصريحات التى أدلى بها سعد الحريرى رئيس مجلس الوزراء وأعلن من خلالها براءة سوريا فى الاتهام بتدبير حادث اغتيال والده الرئيس رفيق الحريرى. فجأة حل ذهول وساد برود لم أعهدهما من قبل فى هذا الشعب.

عقدت المفاجأة الألسنة حتى إن حلفاء سوريا ترددوا فى إظهار فرحتهم أو التعبير عن شماتتهم ربما لأن منهم من هو غير مصدق ومنهم من تعود أن ينتظر إشارة من دمشق ليفرح أو يشمت، ومنهم، وهؤلاء كثيرون، من لم يفهم.

لم يكن خصوم سوريا أقل ذهولا فتصريحات سعد بالنسبة للكثيرين منهم صدمة هزت قناعات ظنوا أنها استقرت بعد سنوات خمس من «الحرية والاستقلال»، وبعد ثورة هيأت الغرب ودولا عربية لإجبار سوريا على الانسحاب متعمدة إلحاق صفة المهينة بالهزيمة السورية ومتعمدة فى الوقت نفسه الإساءة إلى العلاقات بين الشعبين، وبعد مطاردات مهينة بذريعة المحكمة الدولية شاركت فيها قوى غربية وإعلاميون وسياسيون عرب كبار وبعضهم من مصر. يتحدث سعد الحريرى عن هذه القوى والشخصيات، وهو نفسه غير بعيد عنهم، فيتهمهم مع أفراد معروفين بأنهم، وأنقل عن الشرق الأوسط، «ضللوا التحقيق.. وألحقوا الأذى بسوريا ولبنان وألحقوا الأذى بنا كعائلة الرئيس الشهيد.. شهود الزور هؤلاء ضربوا العلاقة بين البلدين .. سيسوا الاغتيال..».

هكذا ببساطة يقال للشعبين إن اتهام سوريا كان مسيسا ولا يستند إلى مبادئ عدالة وقانون وأن ضباطا أربعة من قوى الأمن اللبنانى جرى تشويه صورتهم وحبسهم ظلما. كل هذا حدث بتشجيع من قوى أجنبية وعربية استخدمت مظلة الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن.

تصريحات الحريرى تطور مذهل مع أنه كان يجب على البعض منا فى العالم العربى توقعها أو ما يشبهها. هى بالتأكيد حدث بأهمية حلقات أخرى فى مسلسل أحداث كبار تعاقبت على الإقليم بعد اغتيال الرئيس الحريرى. بدأت بثورة الأرز بدعم غربى وتعاطف أو مساندة قوى عربية ثم الخروج السورى بعد ثلاثين عاما. كان واضحا لنا فى ذلك الحين أن أطرافا، هم أيضا من نوع شهود الزور الذين تحدث عنهم سعد الحريرى، تعمدوا افتعال حوادث لتعميق الخلافات بين البلدين وبين الشعبين بشكل ولغة لا تختلفان عما استخدم قبل عام بين مصر والجزائر.

توالت الحلقات فى تسلسل لافت. خرجت تركيا إلى الساحة الإقليمية مستندة إلى توافق مع سوريا الواقعة تحت سياسات العزل والحصار التى فرضتها أمريكا. وراجت أخبار عن تنسيق بين واشنطن ودمشق حول مسائل تتعلق بأمن القوات الأمريكية فى العراق. وراحت أفكار أمريكية تروج لدور إيرانى لا يستغنى عنه فى العراق كشرط لتأمين أكثر من خمسين ألف جندى أمريكى وآلاف من المرتزقة.

وفى حلقة مشوقة نشطت الدبلوماسية السعودية وتحركت ببراعة فكانت زيارة الملك عبدالله لسوريا ومنها إلى قمة ثلاثية فى لبنان. ولا يستطيع أحد أن يقلل من قيمة هذا النشاط السعودى وعلاقته بتصريحات الحريرى وتبرئة سوريا «سياسيا».

ربما فات علينا فى وقت ما خلال عام أو أكثر ضرورة أن نتوقف طويلا أمام القرار الذى اتخذه النائب وليد جنبلاط حين أعلن تمرده على تحالفه مع الحريرى وتيار المستقبل. وقتها علق البعض منا على تمرد النائب جنبلاط بأنه لا يخرج عن كونه طبعا من طباع الزعيم الدرزى. كان يجب أن نستشعر فى ذلك الحين اتجاه الريح الذى سبقنا إلى استشعاره وليد بيك وكان عائدا قبل قليل من زيارة قادته إلى عدد من مراكز القرار والنفوذ فى الولايات المتحدة.

وربما، وبسبب استغراق طويل فى التهافت والتفاهات، كما بينت بوضوح القمة العربية التى انعقدت فى ليبيا قبل شهور، أهملنا حقيقة أن الغرب، وأمريكا فى صدارته، يعتبر إيران لاعبا مشروعا فى أى مشروع قادم للتسوية أو التصفية. يعتبر أيضا حماس وقد صارت بإرادتها وإرادة المجتمع المدنى العالمى «رقما» صعبا فى المعادلة الشرق أوسطية، ناهيك عن حزب الله ومكانته فى قائمة الاعتبارات الجديدة التى تشكل فى جملتها مسودة «رؤية لشرق أوسط مختلف».

يقول أحد اللبنانيين المتطرفين فى حب سوريا إن تصريحات الحريرى للشرق الأوسط سيكون وقعها كوقع الزلزال فى الإقليم وفى نمط تفاعلاته السياسية وإنه سيعيد الأمور بين لبنان وسوريا إلى ما كانت عليه قبل نشوب ثورة الأرز. لا أتفق مع هذا المتطرف فى حب الشام فلن يحدث شىء من هذا. لا يمكن لهزة مهما بلغت قوتها على أى مقياس أن ترمم الأذى الذى تسبب فيه زلزال سابق.
لا يمكن أن يعود لبنان لعلاقة كتلك التى كانت قائمة بينه وسوريا وبخاصة بعد التغيرات التى طرأت على توازنات القوى الداخلية اللبنانية خلال السنوات الخمس الماضية. ومع ذلك يبقى أن هذه التغيرات ذاتها هى التى يمكن أن تصنع ضغطا دوليا وإقليميا على لبنان ليقبل بعودة نوع ما ودرجة ما من النفوذ السورى وعلى سوريا لتقبل بعلاقة مع لبنان شبه عادية.

هناك قلق مفهوم ومبرر حول مستقبل الحلف الذى يقوده سعد الحريرى. وهناك قلق مفهوم أيضا ومبرر حول مستقبل زعامة سعد الحريرى لطائفة السنة على ضوء التوتر المتزايد داخلها نتيجة هذه التصريحات ولأسباب تتعلق بشائعات عن تمرد زعامات سنية بيروتية.

وهناك، وهو الأهم والشغل الشاغل لعديد من اللبنانيين والنظام الحاكم فى سوريا، التوتر المتصاعد فى بيروت بخاصة بين طائفتى السنة والشيعة، وهناك القلق المبطن بالتفجر فى أوساط الطائفة المارونية.

شاء البعض أم أبى تبقى سوريا، بالنسبة للغرب وبخاصة أمريكا والاتحاد الأوروبى وكذلك روسيا، القوة المحركة فى النظام الإقليمى العربى. كانت المحرك عند نشأة النظام ومازالت حسب ما أكدته أحداث السنوات الأخيرة. وحين أقول القوة المحركة أعنى القوة المولدة لحركة النظام وتفاعلاته الداخلية وتفاعلاته مع الخارج، ولا أعنى بالتأكيد أنها القوة «الموجهة». فالنظام الإقليمى العربى يعيش ويئن ويعذب ويتعذب ويتوافق أحيانا ويوحى فى أحيان أخرى بقرب انفراطه، كل هذا فى غياب قوة موجهة من داخله سواء فى شكل دولة أكبر أو تحالف يجمع عددا من دوله تستطيع ضبط حركته وتوظيف سوريا، باعتبارها القوة المحركة، لصالح مرحلة جديدة فى حياة هذا النظام.

فى مثل هذه الحالة البائسة للنظام العربى يبدو أننا أمام احتمالين: أولهما أن تتحول القوة المحركة إلى قوة موجهة فى إطار جوارها المباشر وهو احتمال خطر ليس فقط على الاستقرار الإقليمى ولكن أيضا على أمن سوريا واستقرارها الداخلى، وقد سبق أن جربته سوريا وجربناه معها ودفعنا جميعا ثمنا باهظا. أما الاحتمال الثانى فهو أن تحاول قوى دولية وإقليمية الاستفادة من «المحرك» السورى وتتولى بنفسها من الخارج أداء دور «القوة الموجهة» فى النظام العربى.

أكاد أرى بالعين المجردة ملامح تكالب دولى وإقليمى جديد على سوريا. وأكاد أكون واثقا من أن زعماء عربا كثيرين يحبسون الآن أنفاسهم فى انتظار ما سيسفر عنه هذا السباق والتزاحم من عواقب سوف تنهمر عليهم وعلى «الشقيقة» سوريا.
جميل مطر كاتب ومحلل سياسي