امرأة تحبها وتكرهها فى آن واحد. خرجت من بيت أبيها البقال تجيد فن المساومة وتبادل المنافع، وتعرف كيف تفصل بين ميولها الأيديولوجية وسلوكها الشخصى وقراراتها اليومية. دخلت مقر رئاسة الحكومة فى 10 داوننج ستريت بوسط لندن وقد قررت تغيير وجه بريطانيا.
يقول أنصارها وأعداؤها إن هذا هو بالضبط ما حدث. غيرت مارجريت وجه بريطانيا. وفى رأى آخرين غيرت وجه العالم. يبالغون بدون شك، ولكن ليس كثيرا.
امرأة ليست كالنساء، أو لعلها كانت التجسيد الحى للحقيقة الأنثوية التى يحاول الرجال إنكارها. جمعت فى تصرفاتها كثيرا من صفات الزعامة والقيادة، وكانت فى الوقت نفسه حاضرة البديهة وقوية الملاحظة إلى درجة جعلتها تنتبه لتفاصيل تغيرات العصر ومتطلباته. ولعل العصر تدخل بدوره ليكون فى خدمة أحلامها وتطلعاتها.
جاءت إلى الحكم مؤمنة بأفكار يمينية. وبحكم ذلك الزمن، كانت أفكارا شديدة التطرف. جاءت وفى يدها عصا سحرية لتشق بها الطريق نحو عالم لابد أن يخضع لهيمنة الفكر الاقتصادى المحافظ. وبالفعل دخلت مبنى رئاسة الحكومة فى داوننج ستريت وبعد عام، أى فى عام 1980، دخل رونالد ريجان البيت الأبيض فى شارع بنسيلفينيا رئيسا لأمريكا، وفى يده هو الآخر عصا سحرية أخرى ينوى تسليطها على الاتحاد السوفييتى واليسار العالمى. وبعد عامين من انتخاب ريجان انتخب الشعب الألمانى رجلا لا يقل إيمانا بضرورة تحقيق النصر للفكر المحافظ، وهو هيلموت كول، كمستشار لألمانيا. أهملت عن عمد أن أذكر أن كرادلة الكنيسة الكاثوليكية كانوا قد انتخبوا فى عام 1978، أى قبل وصول السيدة مارجريت تاتشر إلى الحكم، رئيسا جديدا للفاتيكان، البابا جون بول الثانى، أعتى خصوم الشيوعية وأشدهم كراهية لكل ما هو ومن هو يسارى فى ذلك الحين. أهملت خشية اتهامى بالترويج لفكرة المؤامرة الغربية التى استهدفت الشيوعية الدولية.
●●●
لم يفت على كاتب أو مؤرخ أو رجل سياسة كتب عن سيرة مارجريت تاتشر أو رونالد ريجان الحديث عن العلاقة التى قامت بين الزعيمين، أكد أغلبهم أنها كانت علاقة من نوع خاص جدا، حتى أن أحد المسئولين الأمريكيين نقل عنه قوله إن كلا منهما، تاتشر وريجان، كان يستطيع أن يكمل جملة أو عبارة أو مزحة بدأها الآخر، فى أى لحظة وفى أى موضوع، وفى أى مناسبة.
أحبها ريجان إلى درجة كبيرة. جاءت مرة فى زيارة رسمية إلى الولايات المتحدة وكانت مصابة بأعراض برد شديد. احتار ولم يعرف ماذا يفعل بها. قيل إنه ظل يركض فى المكتب البيضاوى والغرف الملحقة به بحثا عن مناديل ورقية. وبعد المقابلة كلف طبيبه الخاص بأن ينتقل إلى بلير هاوس، قصر الضيافة، المواجه للبيت الأبيض ليكون فى خدمة سيدة الإنجليز.
●●●
كانت موهوبة بلسانها وسرعة الخاطر. سألتها طفلة كانت مع والديها بين جماهير محتشدة خلال زيارة لها فى نيوزيلندا، إن كانت هى ملكة انجلترا. أجابتها بإيماء من رأسها تحمل معنى الموافقة، ثم نظرت إلى والدى الطفلة قائلة لهما “ رجاء لا تخيبا أمل الطفلة، أتركوها على وهْم أننى الملكة.
وكما كانت موهوبة بلسانها كانت أيضا موهوبة بثقتها بنفسها. اختلفت مع الفيلسوف والكاتب الكبير كريستوفر هيتشينس Hitchens حول قرار تنوى اتخاذه يتعلق بمستقبل روديسيا، قبل أن تستقل وتحمل اسم زيمبابوى. وعندما انتصرت على الفيلسوف بالحجة تلو الحجة، طلبت منه أن ينحنى أمامها اعترافا بهزيمته. انحنى الرجل. عادت وقالت له فى لهجة حازمة: انحنِ أكثر. فانحنى أكثر. بدا لها أنه لم ينحن بالقدر اللازم فصرخت فيه.. «لا.. لا.. انحنِ أكثر وأكثر.. فقد هزمتك».
●●●
كانت تاتشر العلامة المميزة للعصر الذهبى للمحافظين فى الغرب، فبفضلها سقطت المنظومة النقابية العتيدة فى انجلترا. وبفضلها تغير شكل السياسة فى بريطانيا عندما قلبت رأسا على عقب العلاقة بين الدولة وقوى السوق، وبفضلها تحسنت مكانة انجلترا عندما استفادت من علاقتها بالرئيس ريجان وبالسمعة التى تكونت لها عن نفوذها الشخصى فى البيت الأبيض وتدخلها فى صنع القرار الرئاسى الأمريكى. قيل وقتها إنها خططت لمفاوضات ريجان مع الرئيس جورباتشوف الذى اتهم بقيادة عملية تفكيك الاتحاد السوفييتى وانحساره. وكانت أول من أدخل إلى البيت الأبيض فكرة الخطر الإسلامى الزاحف على الغرب.
اعتقدت أنها تستجيب للشعب البريطانى الذى يريد التحرر من ثقافة الاشتراكية وإرثها ومن أبوية الدولة. كثيرون يكتبون عنها إشادات قوية بدورها فى التحولات الاقتصادية العالمية التى منحت الأولوية والأهمية المطلقة لاقتصادات السوق، آخرون يعقدون الفضل فى هذا التحول إلى الزعيم الصينى دينج تشاو بنج الذى قاد ثورة الإصلاح فى الصين فى أواخر عقد السبعينيات وأوائل الثمانينيات.
●●●
أما أنا فمازلت عند موقفى الذى اتخذته من هذه السيدة وسياستها خلال حياتها. قدرت فيها ما كان يمكن أن أقدره فى رجل له مهارتها وشخصيتها وعزيمتها، لا أكثر. فالسيدة تاتشر، فى رأيى، مسئولة عما أصاب الاقتصاد الرأسمالى من نكبات وكوارث، ومنها الأزمة المالية الاقتصادية الراهنة فى أوروبا والولايات المتحدة ومسئولة عن تفاقم الفجوات الهائلة فى الدخول، ومسئولة عن كثير من الاحتجاجات الاجتماعية فى عديد من العواصم الرأسمالية، وعن الخلل فى التوازن الاقتصادى بين أقاليم المملكة المتحدة، وبسبب هذا الخلل تستعد اليوم اسكتلندا للانفصال عن الوطن الأم. ولا ننسى، كما أسلفت، أنها كانت وراء الحملة العالمية للتخويف من الإسلام والمسلمين، وهى الحملة التى تطورت فيما بعد وأخذت شكل الحرب العالمية ضد الإرهاب.
●●●
قيل عنها إنها كانت امرأة بلا قلب، أو امرأة بقلب من حديد، وفى الحالتين يزداد الشك عندى فى جدوى ما حققت فى حياتها لنفسها ولغيرها.