شرفنى المترجم الكبير بدر الرفاعى بالاطلاع على المسودة الأولى لمذكراته التى نشرتها دار الكرمة مؤخرا تحت عنوان «حنين إلى الدائرة المغلقة» وقد أنارت وقائع كثيرة كنت أجهلها، فنحن لا نعرف فى تاريخنا المعاصر سيرة كتبها ابن مناضل عاش مطاردا ثم سجينا، لأن أغلب ما لدينا من سرديات حول السجن كتبها مناضلون خاضوا التجربة وسجلوا ذكريات ويوميات عنها.
يستعيد الرفاعى من عين الطفل التساؤلات الوجودية التى حاصرته وهو يشكل صورة والده الذى كان سكرتيرا عاما لمنظمة «حدتو» وهى واحدة من أكبر المنظمات اليسارية فى تاريخ مصر، وكان من بين القيادات السياسية التى قابلها جمال عبد الناصر وهو يحاول بناء موقف أمام تنظيم الضباط الأحرار قبل التحرك لإسقاط النظام الملكى فى يوليو 1952.
بفضل المواجهة التى خاضها بدر مع تاريخه الشخصى، تحررت سيرته من عبء الأيديولوجيات والأفكار الجاهزة، وانحازت لما هو إنسانى، وغلبت عليها الموضوعية فى تناول وقائع وأسماء كثيرة ترصعها وتبرزها قطعة مدهشة من تاريخ مصر، تحفل بشتى صور الحنين.
لا تخوض السيرة فى تفاصيل متعلقة بصراعات وانشقاقات التنظيمات اليسارية، ليس فقط لأن مئات الأعمال خاضت فيها، بل لأن ما يعنيه متعلق بأزمات إنسانية مركبة طالته كفرد وطالت أسرته عقب اعتقال والده الذى كان شيوعيًا محترفًا يعمل سرًّا، ويعيش على القليل الذى يقدمه له التنظيم.
لم يعرف بدر الذى حمل الاسم الحركى لوالده، حتى بلغ سن المراهقة أية ملامح لهذا الأب، لأنه ظل غائبًا مستقرًا على لائحة المطاردين من الأجهزة الأمنية، وعاش معظم سنوات حياته مختفيًا، كما طرد من عمله كميكانيكى بسلاح الطيران بسبب نشاطه السياسى. فى حين مثلت الأم نساء كثيرات خضن تجارب مماثلة، لذلك تنقل السيرة مشاهد راسخة من صور كفاحها لأجل الوفاء بالتزامات العائلة، فقد كانت أميل إلى التمسك بزوجها التزاما بمنطق «بنت البلد»، والإيمان بأن هذا الرجل هو نصيبها من الحياة، وأن عليها ستره والوقوف إلى جانبه.
أما بدر، فلم يختلط خلال طفولته سوى بأولئك الذين يفدون على والده للاجتماع سرًّا وتقرير أمور أعطوها حياتهم وتحملوا من أجلها الهرب والسجون والمعتقلات. فقد نشأ على أن والده رجل شيوعى، يدافع عن حقوق الآخرين المقهورين.
يرسم الكتاب بحساسية جمالية وكثيرا من الرهافة الصورة التى انتهى إليها نضال الأب بعد خروجه من المعتقل عام 1964، فقد جرى إلحاقه بعمل هامشى فى دار الأوبرا القديمة فى القاهرة.
ومن داخل هذا المكان الذى احتفظ بشىء من سحره التاريخى اكتسب الابن الكثير من المعارف الموسيقية، كما اكتشف كنوز سور الأزبكية ودار الكتب القديمة من الكتب المؤسسة.
بفضل هذا الاكتشاف تشكلت ملامح سنوات التكوين التى تعددت فيها الروافد الثقافية التى شملت توسعًا فى قراءاته الفلسفية والتاريخية والمسرحية، وشهدت كذلك بداية التعرف على المسارح التى أتاحتها السياسات الثقافية فى الستينيات.
تكشف السيرة كثيرا من الخبرات اليومية التى عايشها الرفاعى بعد التحاقه بكلية الآداب ــ جامعة القاهرة ــ نهاية الستينيات؛ حيث درس الصحافة، وشهد انطلاق الحركة الطلابية مجددا فى العام 1968 قبل شهرين من اندلاع ثورة الشباب فى فرنسا، كما رافق بدايات جماعات أدبية تمثل جيل السبعينيات، وترتبط بأسماء فاعلة وكبيرة من أمثال نصر حامد أبو زيد، وحلمى سالم، وزين العابدين فؤاد، ومحمد سيف، وعلاء الديب، وعبد الفتاح الجمل، ولينين الرملى، وصلاح عيسى.
لا تعنى السيرة برصد الوقائع أو الأحداث التى عايشها عبر 75 عاما، لكنها ترصد ما هو دال على مظاهر التغير الاجتماعى، وتصور تبدل مشاهد الحياة فى القرى ثم فى الأحياء السكنية العمالية التى ظهرت ثمرة من ثمار التغيير الذى تحقق فى الزمن الناصرى.
وعلى الرغم من تأييد ما جرى من إصلاحات، إلا أن نبرات الرثاء تشيع فى النص، فقد نأتْ القرية الصغيرة التى عرفها، شأن كل الريف المصرى، بنفسها عن «حضارة الطين»، وذلك الإيقاع المنضبط للحياة، والدائرة المحكمة التى كانت تدور فيها، واختارت «حضارة النفايات» وافتقدت لعصر كامل من البراءة والبساطة ذهب إلى غير رجعة.
تراهن المذكرات أكثر من أى شىء آخر، على إبراز الصراع الداخلى الذى شغل المؤلف طوال حياته، والتناقضات التى عمل على حلها لكى يصل إلى لحظة التعبير عن نفسه كفرد تحرر من روابطه مع الجماعة.
وبالتالى، فهى تهتم بمقاربة مأزقه الوجودى بعد أن فقد القدرة على الاستمتاع وعاش منفاه الداخلى، لذلك تمسك طوال حياته بأقصى درجات الاستقلال، ويبدو تفرده فى الإقرار بعدم تحقق أمنيته فى أن يكون وجوديًّا أو عدميًّا أو لا منتميًا أو «هيومانيًّا». لأننا لا نختار مصائرنا، فالأيديولوجيا ــ بتعبيره ــ تختم كل شىء بخاتمها.
ومع تقدمه فى العمر ومعايشة الحياة، وصل إلى بعض الاستنتاجات، منها أن «الماضوية» كارثتنا الحقيقية وأكبر عائق بيننا وبين الغد، فكل أبواب عقلنا مغلقة ما عدا ذلك الباب المؤدى إلى الماضى. فالأيديولوجية بحسب الكتاب داء يستوجب العلاج، لأنها تعنى فيما تعنيه: التعصب.