وللمجات وظائف أخرى - نيفين مسعد - بوابة الشروق
السبت 18 أكتوبر 2025 2:50 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

وللمجات وظائف أخرى

نشر فى : الخميس 16 أكتوبر 2025 - 7:40 م | آخر تحديث : الخميس 16 أكتوبر 2025 - 7:40 م

من قبل أن تدخل المجات إلى حياتنا اليومية منذ عدة سنوات كنا نشرب فى الأكواب الزجاجية ولم يكن لفظ (مج) معروفًا لدينا من الأصل، تمامًا كما لم نكن نعرف لفظ (كان) من قبل وذلك لأن المشروبات الغازية كمثل سيكو افندى واسباتس وسينالكو وكوكاكولا كانت تُعبأ فى زجاجات وليس فى علب معدنية. أفتح قوسين هنا لأقول إن الأيباد غيّر لى مرتين كلمة سينالكو إلى سيناريو وكلمة اسباتس إلى إسبانى، وأنا أتفهّم هذا التغيير تمامًا، إذ كيف يمكن لجيل Z أن يعرف مفردات أمثالنا الذين ينتمون إلى جيلA؟ كنّا نستخدم أيضًا الفناجين الصينى بمناسبة زيارات الضيوف والأغراب منهم بالذات، أما عند زيارات الأهل والأصدقاء فالكُلفة مرفوعة والبساط أحمدى ولا حاجة لتحريك جزء من الطقم الصينى من مكمنه العميق داخل بوفيه السفرة، أو رفعه من فوق أرفف النيش. بالمناسبة لم يكن يخطر على بال أجدادنا وآبائنا فى النصف الأول من القرن الماضى وهم يستخدمون الأطقم الصينى من وقت لآخر- أن تلك الأطقم كانت من أوائل خطوات التنين الصينى للتربع على عرش المنافسة الاقتصادية العالمية. والطريف أنه رغم أن تشيكوسلوڤاكيا كانت منتِجًا فاخرًا للفناجين ولكل أدوات المائدة تقريبًا إلا أننا تربينا فى بيوت تطلق اسم الطقم الصينى حتى على الطقم التشيكى.. فلم تكن هناك بعد قوانين تدافع عن حقوق الملكية الفكرية أو تحمى المنتِج من أخطاء المستهلك.
• • •
من الأكواب الزجاجية كنّا نحتسى كل المشروبات الباردة والساخنة، وفيها كانت تذاب الحبيبات الفوارة بطعم اليوسفندى ونبتلع بها أقراص الدواء على مضض. الأكواب الزجاجية أكثر أمنًا لأنها تسمح لنا بأن نكشف بسهولة على مدى نظافتها، وهذا معروف. لكن هل خطر ببال أحد أن تلك الأكواب يمكن أن تكون أكثر حميمية؟ بلى خطر ببالى ولست وحدى بالتأكيد، فالزجاج يسمح لنا بإقامة علاقة مباشرة مع السوائل التى نحب أو نكره، فالعين مرآة القلب. لكن بالتدريج زحفَت المجات على حياتنا ثم انتشرَت وتوغلَت، وفى ما عدا المرات القليلة التى نسأل فيها ضيوفنا عما إذا كانوا يفضلون المج أم الكوب الزجاجى، فإن الأصل والأساس هو تقديم واجب الضيافة فى مج، وتكاد تكون عروض الضيافة بالفناجين الصينى قد اختفت تقريبًا. وبالتدريج أيضًا أخذَت تتوسع وظائف المجات، فهناك مثلًا وظيفة الدعاية للبرامج التلڤزيونية. يجلس الضيف المحترم أمام المذيع وإلى جوار كل منهما مج عليه اسم البرنامج ووجهه للشاشة مباشرةً، أما ما هو داخل المج فليس مهمًا على الإطلاق، وعادةً لا يشرب منه لا المذيع ولا الضيف. وأذكر جيدًا فى يوم من الأيام كيف أننى أردت الاحتفاظ بمج يخص أحد البرامج الفضائية التى استضافتنى على سبيل الذكرى، لكننى فوجئت بعاصفة من رفض العاملين على أساس أن المج عهدة رسمية ولا يجوز التفريط فيها. شعرت بدايةً بالإحراج ثم سرعان ما تفهمت الموقف، فلو أن كل ضيف طلب أن يحتفظ بالمج وتبدَدت العهدة، فهل معقول أن يخرج البرنامج بدون مجات؟ مستحيل طبعًا!!
• • •
هناك أيضًا وظيفة المجاملة، فهناك مجات لكل المناسبات بالمعنى الحرفى للكلمة، وذلك بدءًا من الزواج، إلى أعياد الميلاد، إلى السفر، إلى المرض. كما توجد أيضًا مجات للتعبير عن المحبة بين الزوجين وعن امتنان الأبناء للوالدين والأجداد، وتوجد كذلك مجات عليها حِكم ومواعظ وأغانى وأمثال شعبية للترحيب بالضيوف ودرء الحسد. وبسبب هذا التنوع الشديد فى الوظائف- بات من المتعارف عليه أن نجد المجات ليس فقط فى السوبر ماركت ومحلات الأدوات المنزلية لكن كذلك فى المكتبات، فلا ننسى أن هناك مناسبات تربوية كالعودة للمدارس والنجاح والتخرّج وعيد العلم، ومناسبات أخرى ثقافية وسياسية تعبر عنها رباعيات صلاح چاهين وأزجال أحمد فؤاد نجم وأشعار أحمد رامى وما أدراك ما رامى وعشق رامى. وبالتالى فإن المكتبات أولَى من غيرها بمهام التنشئة. كما أصبحَت المجات من الهدايا التذكارية التى نقتنيها من الدول التى نزورها، وبالتالى فعلى الرغم من برودة العلاقات الأوروبية- الروسية وتفكير أوروبا فى بناء حائط لصّد المسيرات الروسية، إلا أن صينية تقديم واحدة يمكن أن تجمع بين مج عليه عروسة ماتروشكا الروسية الشهيرة مع مج آخر عليه شعار نادى ريال مدريد أو برشلونة مع مج ثالث عليه صورة برج إيڤل أو برج بيزا المائل. وبسبب هذا التنوع الشديد فى وظائف المجات وبلدانها فقَد مفهوم الطقم معناه، فأظن أن أحدًا لا توجد لديه دستة أو حتى نصف دستة من مجات بنفس الشكل، بل صارت مقتنياتنا من المجات سمك لبن تمر هندى، وهذا الخليط حل مشكلة كانت تبدو لنا عويصة حتى الماضى القريب. كان كسر أحد أكواب الطقم سببًا مضمونًا للتوتر مع الأطفال والحيوانات الأليفة داخل المنزل، خصوصًا إذا كان الكوب من روايح زمان. الآن حلّ لنا تنوع المجات هذه المشكلة، فلقد أصبح لكل فرد من أفراد الأسرة تقريبًا مجه الخاص الذى لا يقبل تدويره مع الآخرين، فنحن نحب ما نعتاد عليه. وعلى المستوى الشخصى اعتدت أن أعتمد كل فترة مجًا محددًا لأشرب فيه ويصيبنى استخدام باقى أفراد الأسرة له بنوع من التوتر.. تحديدًا أشعر بانتهاك خصوصيتى.
• • •
فى قاموس أوكسفورد يجرى استخدام كلمة المج للتعبير عن كوب كبير أسطوانى الشكل له يد ويُستخدَم بدون صحن. أما فى اللغة العربية فإن الأمر مختلف تمامًا، فعندما دخَلتُ على قاموس المعانى بحثًا عن تعريف كلمة مج وجَدت فيه ما يلي: مج (فعل)، مجّ مججتُ، أمجُج/مُجّ، مجًّا، فهو ماجّ، والمفعول ممجوج. ومجّ الشراب ونحوه من فمه: لفظه، رمى به وألقى مجّ العصير لحموضته والعياذ بالله!

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات