مرسيل يتفيأ «الجدارية» فى مقهى هولندى كمراهق عثر على حبيبته (2-2) - إبراهيم العريس - بوابة الشروق
الجمعة 17 أكتوبر 2025 3:06 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

مرسيل يتفيأ «الجدارية» فى مقهى هولندى كمراهق عثر على حبيبته (2-2)

نشر فى : الخميس 16 أكتوبر 2025 - 7:50 م | آخر تحديث : الخميس 16 أكتوبر 2025 - 7:50 م

«… جئت إلى الجدارية لأتفيأ ظلال لغة تتخمر كالوليد يرقد فى الجرار ويتدثر، وذلك بعد أكثر من عشرين سنة على صدور الديوان. أتبرأ من وحشة الصمت ومن الفراغ الأسوأ فى هذه الأيام الموحشة، لأرتل من مخزون الذاكرة ما ترك الشاعر فى المدى من آيات الحياة والموت والنضارة والخسارة والحضارة والعبارة. لا شىء أبقى من الجدارية فى القلب. قد يذهب الماضى والمستقبل، ولكن الجدارية…».

لن نعرف أبدًا كيف وأين وفى أى ظروف كتب مرسيل خليفة هذه السطور التى نستعيرها هنا من نص طويل كتبه لمناسبة اشتغاله الموسيقى طوال سنوات على تلك التى تُعتبر آخر الأعمال الكبيرة فى شعر محمود درويش، «الجدارية» التى انتهى حديثًا من موسقتها، ويسعى لتحويل العمل، نصًا وموسيقى إلى مأثرة مسرحية ضخمة ما إن يعثر على من يغامر بإنتاجها.

لكننا نحس أن الشعر، فى حالة مرسيل داءٌ معدٍ لا برءَ منه، ولا سيما حين يضحى لغته الأخرى بعد تجربة خمسين عامًا فى التعايش مع شعر محمود درويش ولغته.

غير أن ما يميز «شاعرية» مرسيل خليفة، بالمقارنة مع صلابة درويش المتجلية عادة فى صوته الخطابى، الذى يكاد وحده يُلخص التراجيديا الفلسطينية التى أوصلها فى «الجدارية» إلى مستوى يذكّر بـ«كانتوس» باوند وأغنيات لوركا الغجرية (رومانسيرو)، ويوميات نيرودا ونشيد هذا الأخير الشامل، هو أن لغة درويش الخنجرية تطلع من عمق الفاجعة لا من تأملها.

ومن المؤكد، منذ الآن، أن مرسيل يشعر أنه يتبنى ذلك الجرح نفسه فى كليته، وقد تلاقى الجرح اللبنانى أخيرًا مع الجرح الفلسطينى، ليُضحى صاحب أغنيات «وعود من العاصفة» و«أحمد الزعتر» أرقَّ المعبّرين عن وحدتهما فى بؤسيهما، شراكةً مع شاعره المفضل.

مهما يكن، فإن هدوء رنة صوت مرسيل يتكامل مع بحة وعنف صوت درويش، لتصلك ناعمةً نعومةَ موسيقاه، بل حتى أوركسترالية، حتى ولو دندن بها على مسمعيك وأنتما تحتسيان القهوة التركية فى المقهى الهولندى، ثم لاحقًا حين تعود أنت إلى مدينتك ويتوجه هو إلى حفل جديد وتكريم جديد وسفر جديد إلى «آخر العالم»، فى وجدة المغربية هذه المرة، على الحدود مع الجزائر، حيث يُصدم بأن يجد تلك الحدود عصية على سكان الجانبين من الحدود... تلفت نظره إلى أن هذا هو بالتحديد موضوع فيلم مغربى لافت جديد للسينمائى الموسيقى المغربى كمال كمال، وهو من ناحيته ابن المنطقة وواحد من أكثر السينمائيين العرب اهتمامًا بالموسيقى، فيثور فضوله – أى فضول مرسيل – ويسألك ما يكفى من المعلومات تمهيدًا لاتصاله بالموسيقى السينمائى ومشاهدته فيلمه.

فى نهاية الأمر، فضول مرسيل خليفة يمنحه سمات الشباب الدائم التى تتناقض مع الشيب الغامر الذى بدأت يومياته تنضح به، لكنه الفضول نفسه الذى يضفى عليه تلك الروح الشابة التى تمكنه من أن يُبدى أكبر قدر من السرور حين يلتقى، وفى لاهاى تحديدًا، بسيدة مغربية فى مقتبل الشباب تخبره – بعد أن تعرّف نفسها – أنها، وفى قاعة فى لاهاى بالذات، رغم أنها تعيش وتعمل فى أنتويرب البلجيكية، غير بعيد عن حدود هولندا على أية حال، كانت فى سن ما قبل المراهقة حين حضرت حفلة له فى المدينة مع أمها وجدتها وخالتها: «بصعوبة يومها تمكّنا من الحصول على بطاقات، لكنى أنا شخصيًا عجزت عن الوصول إليك كى أتصوّر معك!» وهنا يبتسم المغنى الموسيقى ويقول لها: «حسنًا، هيا نتصور الآن!» ويلتقط السيلفى بنفسه كما يفعل مع كل المارة الذين يطلبون منه ذلك، ويشعر بسرور يملأ عينيه بالدمع حين يلقون عليه بعد اللقاء تحية مثلثة: للبنان، لفلسطين، وله شخصيًا.

فبالنسبة إلى مرسيل خليفة، القضية واحدة، وشعر محمود درويش – وغيره طبعًا من الشعراء الذين غنى لهم كـ«تروبادور جوّال» حقيقى، من عباس بيضون إلى محمد العبد الله مرورًا بحسن عبد الله – شعرٌ واحد لقضية واحدة هى قضية الإنسان العربى.

ومن هنا، لأن «الجدارية» هى، بشكل أو بآخر، ملحمة تسمو على العصبيات الضيقة، وتجتاز الحدود المزيفة، وتستنكر «الهويات القاتلة» (بحسب تسميات أمين معلوف على الأقل)، ها هو اليوم يريد منها أن تفعل بدورها كل ذلك، ولا تطلع من بين يديه مجرد إضافة، ولو طويلة المدى إلى أقصى الحدود، إلى المزاج «التروبادورى الجوال» الذى كان يرتبط بإنتاجه الفنى، بل تجاوز حتى للملحمية التى طبعت «أحمد الزعتر» نحو ملحمية جديدة تُعيدها – وأحيانًا فى صلب العمل الترتيلى – إلى صوت وإلقاء محمود درويش نفسه، ممتزجًا مع راوٍ أو راويةٍ للشعر، مع رقص تعبيرى، وحوارات – «أعرف تمامًا منذ الآن كيفية تحقيقها فنيًا بفضل تقنيات لم أكن أعرف عنها الكثير لسنوات خلت وباتت فى متناول اليد»، يستطرد موضحًا – «حوارات بين الشاعر وقضيته، بين الشاعر ومستمعيه، وربما أيضًا بين الشاعر ومُموسِقه، وربما عبر آلات فردية، كما أفترض فى التوزيع الأوركسترالى الذى أنجزت قسمه الأكبر»، يضيف هذه المرة مبتسمًا.

ثم بعد رشفة من فنجان قهوته، يضيف: «وأحلم أن يصل المشروع كله إلى الجمهور من طريق عرض مسرحى» – يفوته هنا أن يذكر أنه سيكون ربما على غرار «أغنية النشوة المطلقة» كما قدمها الروسى سكريابين فى عرض أخّاذ قبل قرنٍ ونيف، فكانت مفتتحًا للأزمنة الحديثة فى عالم الاستعراض الموسيقى – «وربما يُفوّت هذا عن قصد لأنه يرى أن محاولة سكريابين كانت تتسم بشىء من السحر والشعوذة الميتافيزيقيين، بينما يسعى هو إلى تحقيق عمل واقعى، وربما يستجيب حقًا لما يمكن تلمّسه فى علاقته بشعر محمود درويش و«القضيتين» الفلسطينية واللبنانية اللتين حملهما درويش على كاهله، بل ربما نقلهما إليه عبر تلك العدوى التى افتتحنا بها هذا الكلام».

ويمكن رصدها – على أية حال – فى هذا النص الذى كتبه درويش قبل عقود عن موسيقى مرسيل خليفة تحديدًا:
«لعل أغنية مرسيل خليفة هى إحدى الإشارات القليلة إلى قدرة الروح فينا على النهوض. فعندما كنا نستثنى التعبير الثقافى من شمولية ما تعرض له الوقت العربى من انهيار عام، كنا ندافع عن أمل شخصى فى حماية منطلقة من الروح يصعب اجتياحها بالدبابة أو بالعزلة. لقد أُغلق القلب حتى صرنا ندهش من تحمّل عصفور سماء. وسط هذا الخراب كانت أغنية مرسيل خليفة تنتشل القلب والأجنحة من الركام. كانت قوتها الهشة هى قوة الحياة فى حصار السؤال والجواب. فيها وجدنا قدرة المأخوذين إلى الموت على الغناء، وعلى إبداع مستوى للواقع نمتلك فيه حرية افتقدناها فيما سِيق من كلام ومن إيقاع. البسيط ينفجر منا لتفكيك المعقّد فى الوعى والعاطفة. والواقع حين يغنى أحد مستوياته بهذه البساطة، يفتح نافذة للرجاء.

فى أغنية مرسيل خليفة خبزٌ للكلام، وشىءٌ واضح من جدوى وجمال ما ينفع. كنت، على سبيل المثال، أعلن حبى لأمى من زنزانة، ولكن لم تُدرك هى ولم أُدرك أنا فاعلية هذا الاعتراف إلى أن فضحت أغنية مرسيل خليفة هذا الحب وفتحته على ما هو أوسع من علاقة شخصية ومن لحظة سجن. وهكذا ردم مرسيل خليفة الهوة التى وسّعها الشعراء بين القصيدة والأغنية، وأعاد إلى العاطفة المغيّبة حضورها المنقذ للمصالحة بين الشعر الذى مجّد ابتعاده عن الناس فانصرفوا عنه. وهكذا طوّر الشعرُ أغنيةَ مرسيل خليفة، كما طوّرت أغنيةُ مرسيل خليفة علاقةَ الشعر بالناس. ومعه صار الشارع يغنى، ولم يعد الكلام فى حاجة إلى منبر كما لا يحتاج إلى مكبّر للصوت».

إبراهيم العريس إبراهيم العريس
التعليقات