متلازمة الكتابة والقهوة - صحافة عربية - بوابة الشروق
الأحد 24 أغسطس 2025 7:31 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

متلازمة الكتابة والقهوة

نشر فى : الأحد 17 أغسطس 2025 - 6:55 م | آخر تحديث : الأحد 17 أغسطس 2025 - 6:55 م

نشرت جريدة الرياض السعودية مقالا للكاتب إبراهيم الوافى، تناول فيه متلازمة الكتابة والقهوة، حيث من بين الطقوس الصغيرة التى تسكن وجدان المبدع العربى، تظل القهوة أكثرها رسوخًا فى الذاكرة وفى النصوص معًا. فهى ليست مجرد مشروب يتناوله المرء لبدء نهاره أو لمدّ سهره، بل هى حالة وجدانية متكاملة، تقترن بالكتابة والتأمل والبوح. ولعلّ هذا ما يجعلها تتسلل إلى الشعر والرواية بوصفها رمزًا للصفاء، وجسرًا بين اللحظة المادية والروحية. ومن هنا جاءت «متلازمة الكتابة والقهوة» لتكشف عن هذا الارتباط العميق بين الكلمة وفنجان البن، حيث يتحول الشراب الأسود إلى لغة أخرى تضىء المعنى وتثرى التجربة الإبداعية.. نعرض من المقال ما يلى: 

يقول الثبيتى فى رائعته تغريبة القوافل والمطر:

وزِدْنَا مِنَ الشَّاذِلِيَّةِ حتَّى تَفِىءَ السَّحَابَةْ

أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ

واسْفَحْ علَى قِلَلِ القَومِ قَهْوتَكَ المُرَّةَ

المُسْتَطَابَةْ ..

القهوة، تلك الحبيبات السمراء التى تُسحق لتتحول إلى شراب أسود كثيف، لم تكن مجرد مشروب فى الوجدان الإنسانى، بل صارت رمزًا ثقافيًا وحضاريًا احتل مكانة خاصة فى الأدب عبر العصور، فمنذ أن انتشرت فى المشرق العربى، ارتبطت القهوة بالمجالس، والحوارات، والبوح، وباتت قرينًا للفكر والتأمل، حتى صارت حاضرة فى النصوص الشعرية والروائية بوصفها أكثر من مجرد شراب، إنها طقس من طقوس المعنى، ورؤيا تجتاز المادى للروحى بكل مكوناتها الزمانية والمكانية.. ففى الشعر العربى الحديث، كثيرًا ما جاءت القهوة كرمز للحميمية والسكينة، ولحظات الصفاء التى يختلى فيها الشاعر بنفسه أو مع من يحب، لهذا جعل منها محمود درويش، على سبيل المثال، كيانًا شعريًا متكاملًا، يعبّر عن بداية النهار وطقس الانتماء إلى الحياة، وعن الانتظار الذى يحمل نكهة الألفة، فبدت لنا فى قصائده أكثر من طعام أو شراب بدت لنا جسرًا بين الحواس والفكر، وعبورا من اللحظة المادية إلى اللحظة الروحية.

 أما فى النثر، فقد استخدم كثير من الروائيين القهوة كبنية سردية، ترمز إلى الحكاية ذاتها، أو تشكل خلفية لمشهد حوارى، أو مدخلًا إلى استكشاف عوالم الشخصيات، فهى عند نجيب محفوظ، وعبر مقاهى الحارات رمز للتواصل الاجتماعى ومسرح لتصادم الأفكار، فالمقهى، حيث تفوح رائحة البن، يصبح فضاءً مفتوحًا لتبادل الآراء، وتشكيل مصائر الشخصيات، حتى تكاد القهوة أن تكون شخصية صامتة تراقب الأحداث، فرمزيتها تتجاوز المشهد الواقعى لتلامس الجانب الفلسفى، وهى بذلك سواء فى الأدب الغربى أو الشرقى على السواء، تمثل لحظة التوقف فى مجرى الزمن، لحظة يضع فيها المرء همومه على الطاولة، ويحتسى رشفة، كأنه يعيد ترتيب أفكاره وحياته، ففنجان القهوة يبدو لنا كدعوة للتأمل فى مسار الذات، أو نافذة لقراءة الآخر، أو حيلة لإطالة زمن الحديث، ومن هنا تتخذ القهوة رمزًا للبطء الواعى فى مواجهة تسارع الحياة، وللاستمتاع بالتفاصيل الصغيرة التى تمنح الوجود نكهته.

كما ترتبط القهوة فى الأدب بالذكريات؛ فهى تثير الحنين إلى بيت الأم، أو إلى لقاءات الأصدقاء، أو إلى حب قديم كان يبدأ أو ينتهى مع آخر رشفة، فالروائى التركى أورهان باموق أشار فى أعماله إلى القهوة كعلامة على استمرارية العادات وسط التغيرات، وكأنها مرساة تحفظ للإنسان بعض ثوابته، وفى سياقات أخرى، قد تحمل القهوة دلالات متناقضة؛ فهى أحيانًا رمز للصحوة واليقظة الفكرية، وأحيانًا إشارة إلى القلق والسهر، فى بعض القصص، يكون فنجان القهوة الذى يشربه البطل فى منتصف الليل علامة على صراع داخلى، أو على فكرة لا تتركه ينام، وهكذا تتلون رمزية القهوة بحسب الإطار النفسى للشخصية والسياق السردى، وهى كذلك مساحة للقاء الثقافات، ففى النصوص الأدبية التى تناولت الاستعمار أو الهجرة، تصبح علامة على التداخل بين العوالم، إذ يجلس الشرق والغرب على طاولة واحدة، يحتسيان القهوة بطرق مختلفة، ويتبادلان المعانى والدلالات، وقد نجد هذا البعد فى روايات الرحالة والمغتربين الذين استخدموا القهوة كأيقونة تجمع بين الهوية الأصلية والتجربة الجديدة، ويمكن القول إن القهوة فى الأدب متلازمته الدائمة فهى نص داخل النص، لغة صامتة يتحدث بها الكاتب إلى القارئ دون أن يصرح، هى لحظة تتوقف فيها الحكاية لتستمع إلى نبض الراوى أو أنفاس الشخصيات، وقد تكون أيضًا نوعًا من التواطؤ الجمالى بين المؤلف والقارئ، حيث يعرف كلاهما أن وراء هذا الفنجان عالمًا من المعانى والرموز، وهكذا، تظل القهوة فى الأدب أكثر من مشروب يرافق القراءة أو الكتابة، إنها فضاء من المعنى يعكس علاقة الإنسان بزمنه، وبذاته، وبالآخرين، هى نكهة الكلمة حين تستوى على نار التأمل، ورائحة الحكاية وهى تُسكب فى فنجان الحياة.

 

التعليقات