الإهمال العاطفى ليس مجرد غياب الحب، بل غياب الاستجابة للاحتياجات العاطفية الأساسية التى تُشكّل لغة التواصل الإنسانى، ووفق تقرير منظمة الصحة العالمية عام 2020، يُهمل ما يقارب 30 % من الأطفال احتياجاتهم العاطفية فى مراحل النمو الحرجة، دون أن يدرك الكثيرون أن هذا "الصمت" قد يُعيد رسم مسارات حياتهم المستقبلية، على عكس الإساءة الجسدية التى تترك آثارًا مرئية، يبقى الإهمال العاطفى جرحًا خفيًّا يتفاقم مع الزمن، مُهدّدًا الصحة النفسية للأشخاص والروابط الأسرية.
يُعرّف الإهمال العاطفى بأنه فشل متكرر فى الاعتراف باحتياجات الفرد العاطفية أو تجاهلها، سواء عبر عدم التعبير عن الدعم، أو تجاهل المشاعر، أو فرض توقعات غير واقعية تُهمش الجانب العاطفى. يقول عالم النفس جون بولبى، مبتكر نظرية التعلق: «الإنسان يولد بحاجة إلى أن يُرى ويُسمَع، عندما تُهمل مشاعره، يتعلم أن وجوده لا يستحق الالتفات، فتُبنى شخصيته على أساس من عدم الأمان».
عند البالغين، يتحول الإهمال العاطفى إلى شبح داخلى يُذكّرهم بأنهم «غير جديرين بالحب»، ما يولد حلقة مفرغة من الشك الذاتى، فالأشخاص الذين عانوا من إهمال عاطفى فى الطفولة هم أعلى بمرتين فى خطر الإصابة بالاكتئاب فى البلوغ، بسبب القلق المزمن؛ الناتج عن عدم القدرة على التنبؤ باستجابة الآخرين، والناتج عن الانفصال العاطفى؛ كآلية دفاع تُفقد الفرد القدرة على بناء علاقات عميقة.
الأطفال هم الأكثر تأثرًا، لأن أدمغتهم ما زالت فى مرحلة النمو الحرج، وفق تقارير المجلس العلمى الوطنى للطفل عام 2012، يُنتج الإهمال العاطفى توترًا سامًّا يدمر الروابط العصبية فى القشرة الأمامية الجبهية، المسئولة عن التنظيم العاطفى والتعاطف، هذا يؤدى إلى صعوبات فى التعلق وتطوير أنماط تعلق غير آمن (مثل: التشبث المفرط أو الانسحاب)، ويؤدى لكبت المشاعر، حيث يتعلم الطفل أن التعبير عن الغضب أو الحزن «ممنوع»، مما يزيد خطر السلوكيات الانتحارية لاحقًا، الأمر الأكثر خطورة هو إعادة إنتاج النمط؛ فالوالد الذى عانى من إهمال عاطفى قد يُكرر السلوك ذاته مع أبنائه، إما بسبب عدم معرفته بكيفية التعبير عن العاطفة، أو كرد فعل على مشاعره المكبوتة.
التعافى من آثار الإهمال العاطفى ممكن عبر استراتيجيات مُخططة تدمج الشخص مع بيئته؛ أولها الاعتراف بالاحتياجات كخطوة أولى، وذلك بتعلّم تسمية المشاعر (مثال: "أشعر بالوحدة لأننى لم أتلقَّ دعمًا اليوم") بدلًا من كبتها، وللآباء: استبدال عبارات مثل "لا تبكي" بـ"أرى أنك حزين، هل تريد أن تحكي؟" لتعزيز الأمان العاطفى. كذلك ممارسة اللطف الذاتى كآلية علاجية، تقول كريستين نيف: «الأشخاص المُهملون عاطفيًّا يعاملون أنفسهم بقسوة، لأنهم صدقوا رسالة الطفولة: (مشاعرك لا تهم)، التعافى يبدأ عندما تتعلم أن تُعامل ذاتك كصديق تُحبه».
الإهمال العاطفى ليس خطأ فرديًّا بل فجوة فى فهم أن العواطف لغة بقاء، لا رفاهية. يقول عالم النفس دونالد وينيكيت: «الإنسان لا يولد مكتملًا، بل يُبنى عبر استجابة الآخرين لاحتياجاته، عندما نُهمل العواطف، نُهمل جوهر الإنسانية»، فالخطوة الأولى للتعافى هى كسر الصمت: قول «أنا بحاجة إلى أن تسمعنى» قد يكون أصعب من الصمت، لكنه يفتح بابًا لعلاقات تُذكّرنا بأننا لسنا وحيدين. فى عالم يُسرّع خطاه، ربما يكون أثمن هدية نُقدّمها لمن نحب هى: الوقت الذى نستمع فيه بقلوبنا قبل آذاننا.
محمد الحمزة
جريدة الرياض السعودية