أكبر مشكلة تواجه العقل المصرى والعربى حاليا هى التفكير الذى لا يمت للمنطق أو العقل أو العلم بصلة ولها مشاهد كثيرة أولها مشهد منع النقاب لأعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة أثناء المحاضرات.
فجامعة القاهرة خاصة وكل الجامعات المصرية لديها مئات المشكلات التعليمية والعلمية أقلها شأنا وأثرا موضوع «أثر نقاب عضوات التدريس على الكفاءة التعليمية» ولكن إدارة الجامعة تترك كل شىء لتتفرغ لمعركة النقاب كما أراد البعض أن يصفها وهى « لا معركة ولا بطولة ولا يحزنون» فكل عضوات هيئة التدريس المنتقبات لا يتجاوز 15 أستاذة من مجموع 15 ألف عضو هيئة تدريس.
فلا تعتنى إدارة الجامعة بتدنى السمعة العالمية لجامعة القاهرة أو خروجها من التصنيف العالمى لأفضل 500 جامعة أو أن بعض الطلبة لا يجدون مكانا فى المحاضرات أو.. أو.. من مشكلات التعليم المزمنة وتشغل نفسها والرأى العام بهذه القضية فحسب.
أما المشهد الثانى فى التفكير اللاعقلانى هو جمع آلاف التوقيعات لحظر كل الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية دون التفكير فى عواقب ذلك على الأمن القومى وأن تلك الفكرة قد تعيد الحركة الإسلامية إلى السرية بعد أن أصبحت علانية.. أو تخرجها من ميادين السياسة الرحبة إلى الدهاليز المظلمة للاستقطاب الدينى الحاد، ومن باب الحوار إلى هوة التكفير، ومن التوافق مع المجتمع إلى التصادم معه، ومن حالة التعايش بين الناس إلى الدوران حول السجون والعيش فى دور المظلومية، ومن عقلية المشاركة السياسية إلى عقيدة المفاصلة الشعورية والعزلة العقائدية.. ومن محبة المجتمع إلى النفور منه وكراهيته، ومن قدرة المجتمع على تصحيح وتصويب أخطاء الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية إلى انغلاقها على نفسها وتشرنقها حول أفكارها فى الغرف المظلمة والجلسات السرية.
إن هؤلاء الذين يريدون إلغاء هذه الأحزاب ينسون أنها قد تطورت تطورا كبيرا منذ الثورة وحتى اليوم.
وهؤلاء لا يسألون أنفسهم: لماذا لا نقلد تونس التى حصلت اللجنة الرباعية فيها على جائزة نوبل لاستطاعتها تحقيق التوافق السياسى والسلمى والمجتمعى بين تلك الفصائل جميعا.. دون أن يكون بعضها فى سدة الحكم والآخرين فى السجون أو القبور.. ودون أن يحدث بينها تكفير دينى أو تخوين وطنى وسياسى.
ولو فرضنا جدلا إلغاء كل الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية كما يريد البعض وإقصاءها تماما؟ ترى ماذا يفعل الشباب المتدين الذى يدين بمشروع الإسلام السياسى السلمى والحضارى؟!
أما المشهد اللاعقلانى الثالث فيتلخص فى تلك الحملة التى قام بها البعض لتغيير الدستور فجأة ودون مقدمات.. والغريب أن هذه أول مرة يتم فيها طلب تغيير دستور قبل أن يطبق على الأرض ويرى الناس إيجابياته وسلبياته.
والأغرب أن كل المطالبين بتغيير الدستور هم الذين هللوا له من قبل وملأوا الدنيا صياحا بالفخر والإعجاب والإشادة به وتدبيج الخطب والكلمات وإرهاق حناجرهم بمدحه.. فماذا جرى لهذا الدستور فجأة؟!
أما المشهد اللاعقلانى الرابع فهو تلك الحملة الضارية على «حزب النور» التى لا يعرف أحد مصدرها ولا تمويلها ولا أغراضها الحقيقية.. والغريب فى هذه الحملة الإعلامية الضخمة أنها تخلط خلطا عجيبا بين الحزب ورابعة والتفجيرات.. مع أن الحزب لم يشارك فى رابعة.. وكان دوما ضد فكرتى التكفير والتفجير والصدام مع الدولة وبينه وبينها تناغم وتفاهم على الدوام.. ولم ينخرط يوما فى الصدام معها.. فالحملة الإعلامية تزور التاريخ ومداد قلمه لم يجف بعد.
والغريب والمريب فى الأمر أن معظم الذين يريدون اليوم منع حزب النور كانوا يصفقون له حينما كان فى مشهد 30 يونيه ويصفونه بالوطنية والإخلاص.. وهللوا له أثناء الانتخابات الرئاسية حينما وقف إلى جوار الرئيس السيسى، فما الذى تغير فى حزب النور حتى يدكوه بالمدفعية الثقيلة.
أما المشهد الخامس فهو الإغفال العربى والمصرى الكبير للانتفاضة الفلسطينية الثالثة.
فقد بدأت الانتفاضة الفلسطينية الثالثة انطلاقا من انتهاك المستوطنين والشرطة الإسرائيلية للمسجد الأقصى كما بدأت الانتفاضة الثانية سنة 2000 ولكن الفرق بين الانتفاضتين هائل.. فقد وقف العرب جميعا بجوار الأولى وذهبت كل القنوات الفضائية لتغطية الحدث وامتلأت الشوارع العربية بالمظاهرات والمسيرات والندوات واللقاءات ودبجت المقالات وانتعشت قريحة الشعراء وجمعت الأموال والتبرعات على كل المستويات الرسمية والشعبية.
أما هذه الانتفاضة فالشعب الفلسطينى قد قدم فيها أكثر من ثلاثين شهيدا فى أقل من شهر فضلا عن الإعدامات الميدانية اليومية ورغم ذلك كله فهناك حالة صمت عربى وإقليمى ودولى مريب وعجيب.. فهل من العقل ألا يوجد أى مراسل تلفزيونى لأى قناة مصرية أو إذاعة مصرية يغطى الأحداث من القدس أو الضفة.. كل مراسلى العالم هناك إلا مراسلى القنوات المصرية الذين ينقلون الصور عن غيرهم بطريقة باهتة وضعيفة ومخجلة.
وهل بلاد العرب كلها سكتت جميعا عن مآسى الفلسطينيين«فلا حس ولا خبر»، ولا «دعم ماديا أو معنويا»، و«لا مظاهرة أو ندوة»، أو«مؤتمر وفعالية»، أو«مقالات أو قصائد تخلد الحدث» أو «دعوة لمقاطعة منتجات أو إضراب عن خدمة الشركات الإسرائيلية».. أو أفلام وثائقية عن كل الانتفاضات.. نعلم أن مصر والأردن فى حالة سلام رسمى مع إسرائيل.. ولكن السلام لا يعنى الموت.. فهناك أدوات كثيرة يمكن لهذه الدول والشعوب استخدامها سواء دبلوماسية أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو فكرية أو استخدام الوسائل الناعمة الأخرى التى تكون أحيانا أقوى من الجيوش وكلها وسائل لا تصطدم مع السلام.. الذى لا يعنى الموت والجمود إلا عند العرب.
فهل مات العرب.. أم أن القدس لا تستحق منهم حتى الصراخ!.. أم أنها لا تستحق اليوم التغطيات الإعلامية القوية فى الإعلام المصرى.
إن هذه المشاهد الخمسة هى عينة فقط من غياب العقل المصرى والعربى والولوج فى عالم اللاعقلانية التى تدير ظهرها للمنطق السديد والعقل السليم والاستنتاج السوى والمقدمات الجيدة التى توصل إلى نتائج جيدة.. والتى تزن الأشياء بميزان واحد ولا تكيل بمكيالين.. فهل نطمع فى ذلك فى قابل الأيام.. اللهم اهدنا جميعا للعقل السديد والقلب السليم.