نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتبة ربيعة جلطى، تقول فيه: إن فى قدر أى كائن بشرى كرتين؛ أولاهما الكرة الأرضية التى يولد عليها، والثانية كرة القدم التى يلعب بها. الكرة الأولى تفرق بين البشر لكثرة صراعاتها والثانية تجمع شملهم وتبنى بينهم الجسور. فهل تجنبنا منافسات الكرة الصغيرة حروب الكرة الكبيرة لإنقاذ البشرية؟.. نعرض من المقال ما يلى.
كُرَتان.. نعم، فى قدَر الكائن البشرى كُرَتان.. يأتى إلى هذا الوجود فيجدهما تنتظرانه ضاحكتين بلؤم. الأولى، كرة قديمة. أقدم من تنفّس الحياة بها. تسقط عليها رأسه حالما ينزل هذا الكائن من العدم صارخا، ثم يعتدل، ثم يقف على قدميه، ثم يمشى فوقها عشرات السنين، ثم يرحل، أما هى فتظل فى دورانها المجنون لا تكل ولا تمل، كما كانت منذ أكثر من أربعة مليارات ونصف من سنوات خلت. إنها تكمّل بقية العناصر الأربعة: الماء والهواء والنار. إنه يسميها «الكرة الأرضية». أما الكرة الثانية فهى من جلد وهواء وهوى، ويسميها «كرة القدم».
كلتاهما نزقتان لا تثبتان على جهة. كلتاهما مدوّرتان، لا تستقران على ضلع، وكأن على أطرافهما وجعا، أو تحتهما الريح. يأتى الكائن البشرى إلى الحياة فيجدهما فى انتظاره. الأولى غريبة الأطوار، عليها ثمانية مليارات من البشر وخرائط ملونة، وخطوط طول وخطوط عرض. وعليها متاريس، وأسلاك شائكة، وجيوش جرارة، وحراس حدود، وحدود مرسومة بدقة وبغير دقة، ورايات، وحروب ضارية، ومسالك عبور صارمة الحراسة.. وأما الثانية فغريبة الأطوار كذلك. يجدها فى انتظاره أيضا. لها حكام، وترسانة قوانين صارمة، ورأسمال عالمى، واستراتيجيون، ومحللون، وسحرة، وعشاق، وانتماءات، وهنا يحضرنى صوت جدتى الندرومية الأندلسية الحكيمة: الحمد لله.. لعل من حكمة التنزيل أن الخرائط والحدود ليست مرسومة بحذافيرها فى الكتب السماوية!
نعم.. لعله تمرين لمدى قدرة البشر على حب غيرهم من البشر، وغيرهم من المخلوقات على الكرة الأرضية. لعله امتحان أبدى للإنسان فى ترنحه بين نزعة النزاع والأنانية والغطرسة والاستبداد، وبين قدرته على التعايش والإيثار وعلى الاختلاف، وتأقلمه مع المجموعات البشرية التى انقسمت منذ سيدنا آدم أو منذ سيدنا نوح عليهما السلام، كما تنقسم الخلية.
• • •
كرتان.. قدر الإنسان كرتان. الأولى يلعب بها الزمن ويلهو فى كون لا متناهٍ من الأجرام والكواكب والنجوم، يركلها فتدور فى الفلك. أما الثانية فيلعب بها الإنسان، يركلها فتلعب به.
الأمر العجب أنهما قد تتجاذبان (الجنون الذى هو حلم لا ينتهى) على حد تعبير شوبنهاور. الحدود الصارمة فوق كرة الأرض قد يخفيها سحر كرة القدم، ولو إلى حين. وقد تضحى أوطان بحجم «مرمى» فى غفلة حارس لا يدرى من هو خصمه.
كرتان متكاملتان. تفرّق الأولى بين ملايين القلوب، فى حين تجمع شملهم الثانية بروح رياضية عالية. تعتمد الأولى على علم الفلك، والفيزياء الفلكية لدراسة ظواهرها، وتتبع سلوك الأجرام السماوية فى الفضاء، ولا تغفل عن ملاحقتها جفون ترسانة من علماء الكون، والكواكب، والمجرات. وأما الثانية فلها أيضا علماؤها وفيزيائيوها ومهندسوها ومخططو خرائطها.
تماما كما الكرة ــ الأرض، يُقسَّم الملعبُ مستطيلُ الشكلِ، حسب القانون رقم واحد لكرة القدم، بتسعين إلى مائة وعشرين مترا طولا، وخمسة وأربعين إلى تسعين مترا عرضا؛ وتجدر الإشارة أن الملعب كرة القدم يسْتلفُ بمهارة فكرة الحدود التى على كوكب الأرض ويقلدها، فيُقسّمُ رمزيا إلى خصمين، أو جيشين، أو بلدين، أو قارتين فى حالة صراع سياسى أو أيديولوجى أو فكرى. يتنافسان فى مكان محدد خاص للمواجهة يذكّر بحلبة الصراع عند الإغريق. لكن حتى وإن جاءت فكرة بناء الأمكنة الخاصة بالصراع من بنات أفكار الأجداد الأوائل الإغريق والرومان لتصل إلى البريطانيين. فإنها طورت قوانينها عبر التاريخ كتقسيم الحدود وجعل ضربة الجزاء تأديبا للخصم رمزيا إذا تعدى حدوده، أو اقترف الخطأ فى المكان الخطأ.
كم يستطيع الإنسان هذا الكائن البشرى الغريب أن يخفى الطفل المستيقظ بعنفوان داخله؟
إنه يحب اللعب مهما حاول إخفاء ذلك. إنه فقط يستجيب لنزق ذلك الطفل النائم فيه، يتوق من خلاله أن يلعب ببراءة كما فى طفولته وصفائه، يعود إلى طبيعته الأولى التواقة للحرية والحلم والحب. أغلب الظن أنه لا يدرى لماذا.. فكل ما يدريه هو أنه يعود ــ وهو يلعب ــ إلى إنسانيته الأولى بعد أن يقشرها من الخلايا الميتة العالقة بها عبر السنين، فيتجاهل ما تمليه الدساتير من قوانين وأنظمة، ويتحرر إلى حين من السياسات الأيديولوجية. لا يأبه لوجه السياسى المتجهم المتوعد، بل تجده يشجع ويناصر ذلك الذى ظلت المواثيق الرسمية وغير الرسمية تحفرُ بينهما هوة العداء. وذلك ما تقوم به لعبة الكرة القدم الماكرة الجميلة.
نعم.. الكرة اللعبة، قد ترفع الجسور فوق الهاويات والهُوات التى حفرتها السياسة، وقد تفجر نبع المحبة من جديد. وهذا ما نشاهده ونشعر به فى هذا الموسم من كأس العالم، كم من دموع فرح أو حزن تمتزج بدقات قلوب مُحِبة، تنهمر من عيون تتعانق وقلوب استيقظت فيها الأخوة من جديد.
حسمت اللعبة الكروية الأمر أمام اللعبة السياسية، فشاهدَ العالم التآخى ولو على حين وناصره.. ولو إلى حين. الحق يقال، إنها الطبيعة الإنسانية الجميلة تعود من أبواب ملاعب الكرة، بعد أن أُغلقت فى وجهها النوافذ والمنافذ، تصر على المحبة والسلام رغم الأمراض بمختلف أشكالها الفيزيقية والنفسية، ورغم التطور الرهيب لأدوات الحرب، وبحوثها، وتكتيكاتها، والتخطيط لاستراتيجياتها، ونَزعات التفرقة، والنّزاعات، والصراعات، وجنون التسلح، وأصوات التهديد بالخراب، والوعيد بتحريك أزرار الرءوس النووية، ونذير الهلاك الشامل، ومنطق «علَى وعلى أعدائى» و...
فهل ستنقذ كرة الجلد والهواء والهوى، أختَها المهددة بالفناء، أختها كرة الصخر المكملة للعناصر الأربعة، الماء والنار والهواء؟
• • •
ربما لا تهم النتائج لهذه النسخة الجديدة والمهمة لكأس العالم فى «قطر»، وفى هذه الظروف العالمية الصعبة سياسيا وصحيا تشوب سماء الإنسانية الحروبُ والقادمُ المجهول، الذى يهم أكثر هو التمنى الكبير أن تحقق موعدا عظيما يشرب العالم فيه من كأس الكئوس كأس المحبة والإخاء بين شعوب قارات هذه الأرض، ليكتشفوا جواهر أنفسهم من جديد رغم اختلاف انتماءاتهم، وليقدموا للعالم، وللذين ظنوا أنهم سيزجون بهم فى ملعب الكراهية، درسا واضحا فى التنافس الشريف، واللقاء والمحبة بين شعوب لا يتراشقون سوى بكرة الهواء وهم ينتمون إلى الكرة الأرضية، التى لا بديل لهم عنها، ما دام العلماء والباحثون فى علوم الفضاء المتطورة، وهم يعرضون اكتشافاتهم الجديدة من ثلاثة إلى أربعة آلاف كوكب جديد خارج مجال الشمس إلا أن الوصول إلى أقربها يقتضى أربعين ألف سنة من السفر. ليس من كوكب جديد قد يجبرهم جبابرة الحروب والكراهية أن يهاجروا إليه عبر مراكب قد تصل، أو قد تغرق فى الفضاء.
العالم المجتمع الآن على أرض قطر، يؤمن أن كرة القدم التى تشبه كرة الأرض فى كثير من خصائصها، مجرد لعبة حروب صغيرة، قد تجنب الإنسانية الحروب الكبيرة التى تهدد الجميع بالفناء، وهى على مرمى حجر. لعبة قد تشفى من البغضاء وتقرب الإنسان الذى خلق من الكمال، فما صرفه عن الكمال إلا علل وأمراض، كما قال الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى.