منذ عدة سنوات كنت ألقى محاضرتى فى الجامعة عن تصميم جهاز الكمبيوتر، أحب دائما أن أعطى مقدمة تاريخية عن كيفية تطور الأمر حتى وصل إلى ما نحن عليه الآن، فبدأت أتكلم عن نوع معين من الرياضيات المعتمدة على العمليات المنطقية وضع أسسها عالم الرياضيات والمنطق والفلسفة الإنجليزى جورج بوول (George Boole) الذى عاش فى القرن التاسع عشر وقلت للطلاب إن هذا النوع من الرياضيات هو حجر الأساس لتصميم أجهزة الكمبيوتر، كنت على وشك ترك هذه النقطة والانتقال إلى نقطة أخرى لكن استوقفنى أحد الطلاب وسألنى لماذا أسس هذا العالم الإنجليزى هذا النوع من الرياضيات ولم تكن هناك أجهزة كمبيوتر وقتها؟ هذا سؤال ذكى لأنه يعنى أن جورج بوول أسس هذا العلم لغرض آخر لا علاقة له بتصميم أجهزة الكمبيوتر، كان هدفه هو إيجاد نقطة تلاقى بين علوم المنطق والرياضيات.
هذا يقودنا إلى نقطة مثيرة: الفكرة العلمية تأتى وتتبلور لهدف معين لكن حين تتحول إلى تكنولوجيا تفيد البشر قد تأتى على شكل مختلف عن الهدف الأساسى، ما هى العلاقة إذا بين العلم والتكنولوجيا؟
العلم هو محاولة فهم الكون والطبيعة من حولنا عن طريق الملاحظة والتجربة والتحليل، أما التكنولوجيا فهى استخدام هذا العلم لرفاهية البشرية عن طريق اختراعات تسهّل الحياة مثل وسائل النقل والأجهزة الطبية والأدوية ووسائل الاتصال إلخ، أى إن التكنولوجيا هى تطبيق العلم فى حياتنا. هذا عن التعريف فماذا عن التطبيق؟ البحث العلمى له دوافع قد تختلف عن التطور التكنولوجى، فالبحث العلمى قد يكون بدافع الفضول أو بدافع حل مشكلة ملحة، التكنولوجيا تأتى لهدف اقتصادى أو لحل مشكلة مُلحة، وهنا يجب أن نفرق بين حل مشكلة مُلحة من الجانب العلمى وحلها من الجانب التكنولوجى، قد تستطيع إنتاج لقاح للكورونا وهذه مشكلة علمية، لكن إنتاج مليارات الجرعات من هذا اللقاح فى مدة قصيرة وبتكلفة قليلة هى مشكلة تكنولوجية، عن طريق الفيزياء قد تُكتشف طرق لتصنيع ترازيستور أصغر وأسرع لكن استخدام هذه الترازيستورات فى تصنيع أجهزة كمبيوتر أقوى هى مشكلة تكنولوجية.
عندما بدأ علماء الأعصاب محاولة فك شفرة عمل المخ (ما زالت المحاولات مستمرة) كان الهدف هو الفضول للبعض والتوصل لعلاج أمراض مثل الصرع والألزهايمر وفقدان الحواس إلخ، التكنولوجيا عندما نظرت إلى هذا التطور بدأ التفكير فى بناء برمجيات تشبه فى عملها الخلايا العصبية لكن انظر الآن إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعى، لا علاقة لها بالهدف العلمى الأساسى لكن هدفها صناعة منتجات (برمجيات وأجهزة كمبيوتر فى هذه الحالة) تساهم فى رفاهية البشر.
الطريق من العلم المجرد إلى تكنولوجيا مطبقة فى عالمنا ليس طريقا مستقيما بدون تعرجات أو عوائق، التكنولوجيا تعمل تحت ضغط الاقتصاد، فقد تكون النظرية العلمية موجودة لكن تطبيقها على أرض الواقع ليس ممكنا فى الوقت الحالى إما لارتفاع التكاليف جدا أو لعدم جدواها اقتصاديا (لن يشتريها الناس مثلا) أو لجشع الشركات التى لا تريد النزول بمنتج جديد قد يؤثر على بيع منتج قديم، أول مكالمة تليفونية من تليفون محمول قام بها مارتين كوبر من شركة موتورولا وهو يقف فى مانهاتن فى نيويورك وأجرى المكالمة مع معامل بل فى نيوجيوسى فى الثالث من إبريل سنة 1973، لكن التليفون المحمول لم يصبح متاحا للجميع قبل العقد الأخير من القرن العشرين.
من العلاقات المثيرة بين العلم والتكنولوجيا أن التكنولوجيا تبدأ بعلم ناقص، كما نرى الآن فى إنتاج اللقاحات حيث نجد لقاحا معينا ثم يظهر لقاح آخر أكثر كفاءة، عندما يتطور العلم أكثر ويوافق هوى الاقتصاد تتطور معه التكنولوجيا، عندما أجرى ألكسندر جراهام بل أول مكالمة تليفونية مع مساعده واطسون لم يكن يعلم شيئا عن أسباب الشوشرة على الإشارات السلكية وما شابه لكن مع التطور العلمى المتبوع بتطور تكنولوجى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن.
العلم قد يبدأ بفكرة لكن التطبيق التكنولوجى قد يكون فى فكرة أخرى، والعلم منبعه الفضول البشرى وحل مشكلات ملحة لكن التكنولوجيا مقيدة بقيود الاقتصاد، هل يمكن أن نجد فريقا بحثيا يضم أساتذة من كليات العلوم والهندسة والاقتصاد عندنا فى مصر؟ أعتقد أن النتائج ستكون مفيدة جدا.