قام الرئيس ترامب فى فترة ولايته الأولى، بين أعوام 2017 ــ 2021، بتغير السياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه العديد من الملفات الحاسمة، وعلى رأسها التنافس مع الصين، والعلاقة مع روسيا، والشرق الأوسط. ولدى عودته للبيت الأبيض بعد أربع سنوات من حكم الرئيس بايدن، وجد تعقيدات لا حصر لها فى الملفات الثلاثة، الأمر الذى جعله يردد فى أغلب تصريحاته بأن إدارة جو بايدن أدخلت العالم فى أزمات، وأورثت إدارته هذه التحديات. ومع وجاهة هذه الدعاية التى يكررها ترامب كونه القائد الذى فرض عليه القدر أمورا عظيمة ليست من صنعه، لكن يبدو أن الأمور ليست كما يصورها.
لنعد لفترة ترامب الأولى، ونستحضر سياسته تجاه الصين. حيث بادر بإعلان حرب تجارية، بدأها برفع الجمارك على السلع الصينية من 10 إلى 25%، والتى شملت سلعا بقيمة 300 مليار دولار أو 55% من حجم التجارة بين البلدين، وذلك بحجة تقليص العجز التجارى والحد من قدرة الصين التنافسية، ضاربا بعرض الحائط منظومة التجارة الحرة، التى قادت الولايات المتحدة عملية بنائها بعد الحرب العالمية، والتى أثمرت عن العديد من المؤسسات الاقتصادية الدولية، وأخرها منظمة التجارة العالمية التى نشأت عام 1995.
ثم توسعت المواجهة بين الطرفين ووصلت إلى مجال شبكات الاتصالات، وعلى رأسها شبكة جى 5. وأعلنت إدارة ترامب سياساتها «الصفرية» بوضوح لكل دول العالم، على الدول الاختيار بين شبكات جى 5 الصينية أو الأمريكية. وتشعبت المواجهة إلى مستويات، منها على مستوى الدول، حيث دشنت الولايات المتحدة تحالفا مكونا من شركات «نوكيا»، و«إريكسون» الأوروبيتين، للاستحواذ على أكبر قدر من مشروعات شبكات الجيل الخامس فى أوروبا. ومنها مستوى شركات التكنولوجيا الأمريكية، وهو الأكثر تأثيرًا على المجتمعات والأفراد، حيث قامت شركات مثل مايكروسوفت، وجوجل، وميتا (فيسبوك سابقا)، وغيرها بوقف تطبيقاتها وخدماتها على هاتف هواوى، أشهر الهواتف الصينية وأكثرها انتشارًا حينها، ما أدى لتراجع مبيعات الشركة. ثم زاد التصعيد عبر الملاحقة القانونية لبعض قيادات شركة هواوى، مثل المديرة المالية للشركة، وهى أيضا ابنة مؤسسها، بتهم سرقة أسرار تجارية، ومساعدة إيران على تفادى العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
عادة ينتهى هذا النوع من المواجهات بالتسوية، بعد أن يختبر كل طرف جدية الخصم، وحجم الخسائر الممكنة، وبعد أن يتأكد كل طرف فى المواجهة بأنه غير قادر على إنفاذ إرادته على الطرف الآخر. وهى النقطة التى يطلق عليها «نضج الصراع» والتى تتحول فيها المفاوضات من مرحلة التسويف، إلى مرحلة التسوية. ولكن لم تحدث تسوية خلال إدارة ترامب الأولى، وإنما فوجئ العالم بانتشار جائحة كورونا التى غيرت المشهد وأولويات الدول. وتبارت العديد من التحليلات لشرح ما جرى، بعضها جزم بحقيقة الجائحة ومدى خطورتها على صحة الإنسان. وبعضها فند ادعاءات التيار الرئيسى الغالب على مستوى الحكومات والإعلام. وكان ترامب من الفريق الثانى، الذى لم يأخذ الجائحة على محمل الجد تارة، واتهم الصين بنشر الفيروس تارة أخرى. وفى المقابل، طرحت بعض التحليلات أن الجائحة ما هى إلا محطة أخرى فى سياق المواجهة بين الطرفين، حيث أرادت الولايات المتحدة فرملة الصين وتغير قواعد اللعبة، لكيلا تستكمل الصين نموها السريع بالدرجة التى تتخطى فيه حجم الاقتصاد الأمريكى وتهدد هيمنتها الاقتصادية.
• • •
لنقفز الآن إلى الأمام ونجرى مقارنة بين سياسة ترامب فى إدارته الأولى، وبين إدارته الحالية، لعل المقارنة توضح جزءًا إضافيًا من الصورة. لقد بادر ترامب لدى عودته إلى البيت الأبيض بانتهاج سياسات هجومية مثل التى تبناها فى فترته الأولى، ولكنها الآن أكثر جرأة وحسمًا عما سبق. وقد يكون السبب هو اختفاء صوت المعارضة المؤسسية داخل الولايات المتحدة، وانخفاض سقف النقد من الإعلام الأمريكى المضاد لترامب بعكس ما كان فى فترته الأولى. وعادة يبدأ الهجوم الترامبى عبر طرح أفكار تبدو غير مألوفة فى شكل مزحة تثير استهجان المتابعين. وإذا لم يجد ترامب رد فعل حاسم بالقدر الكافى خلال فترة وجيزة، فإنه يتحين الفرصة فى أقرب مؤتمر صحفى ويؤكد على ما طرحه من قبل، ويرفع سقف التوقعات.
الهجمات الترامبية الحالية فى مجال الجمارك، هى الآن حديث العالم. فما من دولة، حتى إسرائيل، نجت منها. وتتراوح نسبة الجمارك بين 10% إلى 47%، بحسب العجز التجارى الذى تعمل إدارة ترامب على تقليصه. وقبل أن تظن أن هذه السياسة متهورة، إليكم ما جاء من شرح على لسان وزير الخزانة الأمريكى، سكوت بيسنت، فى حديثه مع المذيع الشهير تاكر كارلسون عبر منصة «إكس»، والذى يبث على التوازى عبر منصة «اليوتيوب»؛ حيث طرح بيسنت السؤال التالى «إذا كانت الجمارك سيئة لحركة التجارة، فلماذا تفرضوها علينا؟» وهو يوجه سؤاله إلى أوروبا. وأردف بسؤال آخر، «إذا كانت الجمارك لا تجدى فلماذا تفرضها الدول على منتجاتنا؟» وهو يوجه سؤاله إلى الصين. وفى تطور لهذه الاستراتيجية، صرح ترامب بأن واشنطن تدرس «تخيير الدول بين الولايات المتحدة والصين»، وذلك بعد نجاح هذه الاستراتيجية فى تغير موقف بنما التى انسحبت من مبادرة الحزام والطريق، فى فبراير الماضى؛ ومن ثم فإننا على مشارف الحرب العالمية التجارية.
• • •
إليكم جانب إضافى وراء منهج ترامب فى إدارته الثانية، يتلخص فى مواجهة «عجز الموازنة»؛ حيث أظهرت الكثير من التحليلات أن إدارة ترامب لا تريد طباعة أموال على غرار ما كانت تفعله إدارة بايدن لتغطية العجز البالغ تريليونى دولار، ولكن سياسة ترامب تعتمد على عدة عناصر أهمها تقليل النفقات عبر تخفيض حجم الحكومة بمقدار الثلث، وهى المهمة التى يتولاها «إيلون ماسك»، الأمر الذى يعتبره البعض عملية إعادة هيكلة للمؤسسات الأمريكية مع تصعيد المؤمنين بالسياسات الترامبية. عنصر آخر، وهو حرب الجمارك التى يتولها بيسنت، والتى لا نعرف مدى سيطرة الولايات المتحدة على مجرياتها. وبينما يدعى ترامب أن دول العالم تتسابق للوصول إلى تسوية بعد أن علق فرض الجمارك لمدة 90 يومًا على كل الدول باستثناء الصين، فإن الأخيرة تبدو أكثر استعدادًا عما قبل، حيث بادلت تعريفات ترامب بتعريفات مضادة، بالرغم من تفاوت النسب حيث فرضت 125% على كل الواردات الأمريكية، بينما هدد ترامب بتصعيد النسبة إلى 245% على الواردات الصينية.
وفى خضم ذلك، بدأت التبعات السياسية تظهر فى المشهد، حيث كشفت صحيفة الـ«فايننشال تايمز»، بأن «شركة «تشانج قوانج» الصينية لتكنولوجيا الأقمار الصناعية تدعم هجمات الحوثيين المدعومين من إيران على المصالح الأمريكية بشكل مباشر، الأمر الذى أكدته المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الأمريكية. هذه الاتهامات التى تنال من قطاع التكنولوجيا الصينى تشبه ما جرى من قبل مع شركة هواوى. ومن ثم حال فشل الطرفين فى الوصول لتسوية هذه المرة، فإن فرص الحرب العالمية التجارية سترتفع، وعلى التوازى سترتفع فرص المواجهة فى تايوان».
باحث فى مجال السياسة والعلاقات الدولية