تدرك واشنطن جيدا أن سلام مصر أو حربها مع إسرائيل يتوقف على تطورات الأوضاع داخل سيناء فصمود معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، التى تعتبر حجر الأساس للتصور الأمريكى للأمن الإقليمى فى الشرق الأوسط، يعتمد على أمن وتأمين سيناء، وامتداد سيطرة الحكومة المصرية إليها. وهكذا أصبحت سيناء وأمنها، بما لها من حدود مع إسرائيل تمتد 250 كيلو المعيار الأهم لحرب العرب أو سلمهم مع إسرائيل.
●●●
من هنا تأتى أهمية تقرير قدم للكونجرس الشهر الماضى ذكر فيه أن الولايات المتحدة تقدم مساعدات لمصر مساهمة منها فى تأمين سيناء، وذكر التقرير أن واشنطن «تدعم مصر فى تأمين سيناء عن طريق إمدادها بمعلومات استخبارية، بما فى ذلك من رصد مكالمات هاتفية ورسائل تبث عن طريق الراديو بين المشتبهين بالقيام بأنشطة إرهابية»، وذكر التقرير أيضا «أن واشنطن تطلع مصر على صور تلتقطها أقمار صناعية وطائرات تجسس أمريكية». إلا أن التقرير أشار أيضا إلى أن الولايات المتحدة ترصد كذلك أى تحرك للقوات المصرية داخل سيناء!
ويدلل ما ذكره التقرير على أهمية شبه جزيرة سيناء للاستراتيجية الأمريكية. وينبع ذلك من كون سيناء ساحة قتال كل الحروب المصرية الإسرائيلية منذ 1948 وحتى 1973، كما تعكس عزلة سيناء الجغرافية، إضافة لموقعها الرابط بين دول مهمة مثل مصر وفلسطين والأردن وإسرائيل والسعودية، بعدا آخر لأهميتها زاد منها وصول تنظيم حماس عام 2006 للحكم فى قطاع غزة الذى ألقى بدوره الضوء على محورية سيناء المجاورة.
●●●
وتدرك واشنطن جيدا أنها خسرت علاقاتها مع القاهرة عندما خسرت مصر سيناء، وعادت العلاقات المصرية الأمريكية بعدما عادت سيناء لمصر. وتدرك أيضا أن معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل تعد بمثابة الإنجاز الأكبر فى تاريخ الدبلوماسية الأمريكية فى الشرق الأوسط، فقد منعت المعاهدة، وما ترتب عليها من استرجاع مصر لسيناء الانجراف نحو مواجهة عسكرية عربية ــ إسرائيلية واسعة لأكثر من ثلاثين عاما.
إلا أن واشنطن ترى أيضا أن فراغ السلطة فى سيناء، الذى ظهر بصورة أكثر وضوحا مع الإطاحة بنظام الرئيس السابق حسنى مبارك، قد سارع وملأه متطرفون من داخل مصر وخارجها ممن انضموا إلى البدو المحليين الذين يشعر الكثير منهم بالظلم من طريقة معاملة الحكومة المركزية فى القاهرة لأبنائهم. وترى واشنطن أنه وللمرة الأولى يشهد أهالى سيناء تأثر شبابهم بالأيديولوجية السلفية الراديكالية، إضافة لتعاونهم بشكل وثيق مع تنظيم حماس، وغيره من الجماعات الفلسطينية (التى تصنفها واشنطن بالإرهابية) فى قطاع غزة.
وتؤمن واشنطن أن السلطات المصرية فقدت سيطرتها التقليدية على أجزاء كبيرة من سيناء فأصبحت شبه الجزيرة مساحة يكتنفها الغموض. ففى الأشهر الثمانية عشرة الماضية هاجمت جماعات مسلحة العشرات من مراكز الشرطة ونقاط التفتيش والمصالح الحكومية، كما تم تخريب خط أنابيب الغاز بين مصر وإسرائيل فى شمال سيناء خمس عشرة مرة. والأخطر أن واشنطن اعتبرت الهدف من هجوم 18 أغسطس 2011، الذى قام به مهاجمون فلسطينيون عن طريق المرور من سيناء لصحراء النقب جنوب إسرائيل، ونتج عنه سقوط ثمانية قتلى إسرائيليين، وقتل سبعة من المهاجمين، إضافة لمقتل ستة جنود مصريين «عن طريق الخطأ» أثناء مطاردة الطائرات الإسرائيلية للمهاجمين الذين لجأوا للحدود المصرية، بمثابة محاولة لتوريط مصر وإشعال الحدود المشتركة بين الدولتين وتهديد أسس معاهدة السلام.
كذلك تنظر واشنطن بجدية لما يتعرض له من اعتداء أفراد القوة متعددة الجنسيات والمراقبين الدوليين، وهى القوة المسئولة عن مراقبة الالتزام بالترتيبات الأمنية الواردة فى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية فى سيناء. ويبلغ عدد تلك القوات ما يقرب من 1700 جندى أغلبهم من الولايات المتحدة. ووفقا لبيان قائدها العام، فقد تعرض أفراد القوة للاستهداف فى 187 حادثة إطلاق رصاص بالذخيرة الحية ما بين يناير ومايو من هذا العام فقط.
●●●
ومنذ عودة سيناء، التى تبلغ مساحتها 61 ألف كيلو متر مربع، أو ما يزيد على ثلاثة أضعاف مساحة إسرائيل، كاملة للسيادة المصرية عام 1982، أهملت القاهرة سيناء لأسباب غير مبررة. كما تعاملت الحكومات المصرية خلال السنوات الأخيرة باستخفاف مع تقارير إعلامية أشارت إلى تزايد وجود متطرفين فى سيناء، وشاهدنا كذلك الاستخفاف بإعلان إقامة «إمارة شبه جزيرة سيناء»، وانتشار هذا الإعلان وتوزيعه فى شوارع العريش خلال أغسطس 2011. واستخفت الحكومات المصرية كذلك بأخبار تحول كثير من قبائل بدو سيناء فى المناطق الوسطى والشمالية إلى ميليشيات مسلحة، واحتراف تهريب المخدرات والاتجار بالبشر، إضافة إلى صفقات تهريب الأسلحة على نطاق واسع خاصة بعد سقوط نظام القذافى فى ليبيا. ويزيد الموضوع تعقيدا عدم اعتراف أهالى سيناء بالحدود السيادية الدولية.
صحيح أن الفراغ الأمنى ليس وليد ثورة 25 يناير، فقد عرفت سيناء الإرهاب من خلال هجمات 2004 ـ 2006 فى طابا وشرم الشيخ ودهب. إلا أن الحكومة والجيش المصريين انتظرا حتى وقع هجوم آثم، قام به متطرفون فى الخامس من أغسطس الماضى، وراح ضحيته ستة عشر جنديا مصريا، كى يدركا ويعترفا بجدية المخاوف من فقدان السيطرة المصرية على سيناء.
استقرار سيناء قد يساعد على خدمة مصالح واشنطن، إلا أن الخيار الأمنى أو العسكرى لتأمين سيناء هو أبعد من أن يكتب له أى نجاح فى تحقيق المصالح المصرية. يوم الأحد الماضى أكد وزير الدفاع عبدالفتاح السيسى «أن القوات المسلحة لن تسمح بوجود أى خطر يهدد سيناء، وأن أبناءها مستعدون للتضحية بأرواحهم ودمائهم من أجل أن تظل سيناء جزءا من مصر لا تنفصل عنها أبدا». نعم الاستعداد للتضحية بالدماء من أجل سيناء شىء نبيل، إلا أنه لا يغير من واقع شبه الجزيرة الأليم والمخيف شيئا، الذى يجب أن يبدأ بمنح أهل سيناء ما يريدون من حقوق داخل أراضيهم وأراضى أجدادهم.
لا يوجد بديل سوى «استراتيجية تسكين سيناء»، ولا يوجد مفر من نقل ملايين المصريين ممن تكتظ بهم مدننا وقرانا وعشوائيتنا للسكن والعمل والحياة داخل سيناء إذا ما أردنا تأمين سيناء، ليس لخدمة مصالح أمريكية، بل لتظل سيناء مصرية.