الموصل وحلب والقمة الغائبة عنهما - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:46 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الموصل وحلب والقمة الغائبة عنهما

نشر فى : الأربعاء 19 أكتوبر 2016 - 9:05 م | آخر تحديث : الأربعاء 19 أكتوبر 2016 - 9:05 م
الشرق الأوسط الجديد جارٍ صنعه الآن على نار غير هادئة. شهور أو سنوات قليلة ويتوقف العرب عن وصف أنفسهم بضحايا مؤامرة اشترك فى صياغتها وتنفيذها المستر سايكس والمسيو بيكو. أكاد أكون واثقا أنهم حتى وإن تخلوا عن سردية سايكس ــ بيكو فإنهم لن يتخلوا عن صفة ضحايا مؤامرة. هم لم يفعلوا شيئا لوقف أو منع مؤامرة سايكس بيكو وهم لا يفعلون شيئا الآن لمنع «مؤامرة» هم أنفسهم بسكوتهم وسوء سياساتهم مشاركون فيها. لن تكون المؤامرة فى السردية العربية القادمة من صنع فرنسا وبريطانيا العظمى ولكن فى الغالب سوف تحكى عن حرب باردة نشأت لتوها بين روسيا والولايات المتحدة وصراع على النفوذ والقواعد. سوف يصرون أيضا فى سرديتهم الجديدة على أن العرب والمسلمين مستهدفون دائما بالتقسيم من دون شعوب العالم، وأن العالم خائف ومرتعب من عواقب قوتهم إذا توحدوا. يعرفون أن الغرب يسعى لوحدة الدول المكونة له، أمريكا توحدت بعد حرب ضارية وأوروبا توحدت بعد حروب عديدة دموية، ومع ذلك، أو هكذا تقول الرواية العربية، لا تريد أوروبا وأمريكا أن ترى الشرق الأوسط وبخاصة الأمة العربية إلا كيانات منفصلة ومتنازعة.

لن تكون السردية العربية السردية الوحيدة التى سوف تحكى قصة التقسيم الجديد للشرق الأوسط. لقد بدأت تتضح الخطوط العامة لسردية أخرى يجرى تسريب أو ابتداع أجزاء منها. هذه السردية، أو السرديات، سوف تصدر عن عواصم الغرب، وسوف تركز على تحميل العرب مسئولية تقسيم التقسيم. بعض العرب انشأوا منظمات الإرهاب وتعمدوا نشر الخراب والدمار فى بلاد خصومهم، بعض آخر ساهم إراديا أو غافلا أو تابعا فى تمويل هذه المنظمات بعد أن تخلى عنها شكلا، أو تبرأ، منها مؤسسوها. بعض ثالث التهى بالثروة حتى قامت الثورة لتكشف عمق وخطورة التمسك بطائفية مدمرة للأديان قبل الأوطان، وتدفع قوى وتيارات عديدة لإشعال نيران فى كل مكان يجرى على ضوئها وحرارتها تهجير طوائف غير مرغوب فيها أو تجميع أبناء طائفة بعينها فى أرض معينة وضمن حدود ترسمها النيران المشتعلة والصفقات الوحشية الجارية فى كل أنحاء البلاد العربية. بعض رابع راح يقتبس من الغرب والشرق أسوا ما عنده من أساليب حكم وقمع ليقيم استبداده الخاص فى حدود دولته القطرية معتمدا على حماية دولة أو دول أجنبية.

***

أفهم بعض ما يجرى على مستوى القمة الدولية، وما يجرى هذه الأيام كثير جدا ولا أزعم أننى أستطيع فى ظل حالة السيولة وأجواء السباق الساخن أن ألّم بأكثره. أفهم مثلا أن روسيا، الدولة التى فقدت مكانها فى القمة الدولية، عادت تستجمع نفوذا وتحالفات وقدرات على ممارسة الضغوط من أجل استرداد موقع أو جزء من موقع فى شريحة القيادة الدولية. اختارت وأظن أنها أحسنت الاختيار، حين قرر فلاديمير بوتين أن الشرق الأوسط بحال انفراطه الراهنة وتدهور الأوضاع الداخلية فى معظم بلدانه يمثل الساحة المناسبة التى يمكن الدخول منها إلى شريحة القيادة. قد أوافق على رأى آخرين بأنه ما كان يمكن أن يختار منطقة أخرى ساحة تمهد للعودة. ففى الشرق الأقصى جميع المحاذير تتجاوز إمكاناته، فضلا عن أن سباقا مماثلا جاريا هناك فى أشكال مختلفة. كذلك أفريقيا. فهى ليست ساحة مناسبة لأنها فى الوقت الحالى عادت أو أعيدت إلى وضعها حين كانت قارة مفتوحة للنهب من جانب جميع الدول الصاعدة على السلم الإمبريالى. الصين موجودة هناك الآن وفى ركابها لتلحق بها أو تتجاوزها اليابان فى أول سباق بينهما خارج آسيا، رأيناهما منذ أيام قليلة فى جيبوتى، بلد القواعد بامتياز، يتسابقان على إقامة قاعدة بحرية ثانية أو ثالثة. هناك أيضا فى أفريقيا دول طامحة مثل تركيا وإيران تسعى وراء الفتات ودول بأحلام استعادة هيمنة مثل ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة. المؤكد على كل حال أنه فى سباق من هذا النوع لا أمل لروسيا فى أن يكون لها السبق فأفريقيا الجديدة تعطى بقدر ما تأخذ ولا أظن أن روسيا قادرة فى الأجل القصير أو المتوسط على مد خطوط سكك حديد وإقامة سدود وشراء مناجم وتطوير التعليم. من ناحية أخرى لم تكن أمريكا اللاتينية فى أى وقت مضى تستحق الكلفة السياسية الباهظة التى يتطلبها سباقا على القمة الدولية. درس تعلمته دول أوروبا على امتداد قرنين وتعلمته موسكو السوفييتية على امتداد سنوات الحرب الباردة.

***

يبقى الشرق الأوسط، ساحة مناسبة بدرجة استثنائية. أتحدث هنا عن الشرق الأوسط فى مفهومنا، حيث يوجد العالم العربى قلبه النابض حينا قصيرا والساكت حينا طويلا ولكنه بقى فى كل الأحيان مصدر طاقته العاطفية والعقائدية. لن ينكر التاريخ أن هذا القلب العربى حاول قدر استطاعته لفترة خلال القرن العشرين أن يحصل على مكانة متقدمة فى سباقات الدول الكبرى وأنه فشل فى الاستفادة من أى سباق من هذه السباقات. نجح فى أشياء قليلة. نجح فى أن يجعل دولا أخرى فى الشرق الأوسط تحتل فى وقت من الأوقات مكانة الهامش أو النتوءات، هى الآن مشاركة بقوة فى صنع مستقبل الإقليم. نجح فى المحافظة شكلا على الجامعة العربية كأول تنظيم إقليمى يقام بعد الحرب العالمية الثانية وفشل موضوعيا فى الاستفادة منه لأن الدول الأعضاء خافت منه فأبقته دائما عند حدوده الدنيا.

لا شىء يجمع العرب الآن. لا اهتمام بهم فى العالم الخارجى إلا بقدر الأحزان والمتاعب التى يتسببون فيها لشعوب هذا العالم. هم الآن مصدر الإرهاب تمويلا وتجنيدا وتنظيما، هم الذين استعادوا لعروبتهم مكانة الهوية المميزة ثم عادوا وفرطوا فيها لصالح هويات ثانوية. قرأت مؤخرا لكاتب كبير يحذر، أو لعله كان يدعو، إلى أن «العربى» كصفة لن تلصق إلا بأبناء الطائفة السنية الناطقين بالعربية. وبالتالى لن تضم جامعة الدول العربية فى عضويتها إلا الدول السنية الصافية وربما دول أخرى لا تعترف بحق انتماء أفراد أو جماعة لهوية أخرى. أو أن تقوم منظمة إقليمية أخرى سنية الهوية تحل محل الجامعة ذات الهوية العربية ومنظمة التعاون ذات الهوية الاسلامية.

***

لم يجتمع العرب على عقيدة أمن واحدة كالتى اجتمعت عليها دول حلف الأطلسى ولا على منهج تنموى واحد كالذى اجتمعت عليه دول الاتحاد الأوروبى. بقيت ويجب أن نعترف بهذا، بقيت معظم دولها معلقة بين ضرورات الارتفاع إلى مستوى الدولة الوطنية أو التمسك بوضع دولة العائلة الواحدة أو دولة الحزب الواحد أو دولة الرجل الواحد. قامت ثورة عربية واجهضت. أجهضتها قوى دولية وإقليمية عديدة لم تشأ رؤية المنطقة العربية وقد قامت فيها دول قومية حديثة على أسس العدالة والكرامة والحرية، أى لم تشأ أن ترى منطقة ترفض أن تكون ساحة مناسبة لسباق دولى جديد أو ساحة مستباحة لتقسيم المقسمات. ها نحن ندفع ثمن الإجهاض، ندفعه دما وثروات مهدرة وحروبا أهلية وانفراطات طائفية وأرضا مستباحة وإرهابا وحشيا ونزاعات وشكوك متبادلة بين الحكام وهجرات مليونية، ها نحن نعود بعد الإجهاض ساحة مناسبة للغرباء المتنافسين. رغم ذلك بدأنا نقرأ الخطوط الأولى للسردية العربية التى سنورثها للأجيال القادمة، عدنا فى السردية الجديدة ضحايا مؤامرة دولية شريرة. جارٍ الآن فى الموصل وحلب صنع مستقبلنا. لا أحد مهتم بأخذ رأينا أو طلب مساعدتنا. ولا أحد عندنا حريص على تأكيد أن الموصل وحلب مدينتان عربيتان يوظفهما غرباء للدخول إلى مستقبل جديد للمنطقة.

***

الموصل وحلب تستحقان قمة عربية. شرعية القمة كمؤسسة عربية جامعة هى الآن على المحك. غيابها يحمل رسالة تقول إن شيئا انتهى وشيئا أو أشياء جديدة تبدأ والقمة العربية ليست بينها.
جميل مطر كاتب ومحلل سياسي