لم يكن مقترح الرئيس الأمريكى دونالد ترامب لـ«السلام الأبدى» فى الشرق الأوسط، سوى إعادة إنتاج لخطة رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو التى سربها مكتبه لوسائل الإعلام العبرية بعد نحو 6 أشهر من بدء الحرب، والتى تتضمن رؤيته لمستقبل قطاع غزة خلال السنوات العشر المقبلة.
خطة نتنياهو التى نشرها موقع «تايمز أوف إسرائيل» فى مارس 2024، كانت أبعد من أهداف حربه الثلاثة المعلنة، وهى؛ إعادة المحتجزين بالقوة أو بمزيد من القوة، والقضاء على حركة حماس سياسيا وعسكريا، وتغيير الواقع الأمنى والسياسى فى غزة بما يمنع أى تهديد مستقبلى.
أدرك نتنياهو جيدا أن القوة الغاشمة وحدها لن تمكنه من تحقيق الهدفين الأولين؛ فالأسرى لن يعودوا إلا بالتفاوض والضغط السياسى، وحماس لن تنتهى عسكريا أو سياسيا إلا بإحداث تغيير عميق فى بنية القطاع السياسية والاجتماعية والديموغرافية، وتحييد داعمى الحركة والمقاومة بشكل عام فى الداخل والخارج، وهو ما سيؤدى إلى تحقيق الهدف الثالث على المدى البعيد.
شملت خطة نتنياهو تحويل القطاع إلى منطقة مستباحة أمنيا، كما هو الحال فى الضفة الغربية «سوف يستغرق الأمر سنة أو سنتين حتى تنتهى المرحلة الأولى من القتال بالقضاء على حماس، تليها ثمانى سنوات أخرى حتى يتم تشكيل حكومة بديلة هناك.. طوال هذه الفترة، ستواصل إسرائيل وجودها فى غزة».
مقصد نتنياهو، إذن، وفق بنود تلك الخطة، هو تبديل عقيدة الغزيين، حتى يتعاملوا مع الاحتلال كقدر لا يمكن الفكاك منه.
منذ عقود طويلة واليمين الإسرائيلى يسعى إلى الخلاص من غزة؛ بـ«إلقائها فى البحر» مجازا، أو بـ«تهجير أهلها» فعلا، وإن تعذر ذلك، فالترويض هو الهدف القابل للتحقق. وللوصول لهذا الهدف، يجب أولا نزع سلاح القطاع وتفكيك بنيته الفصائلية، حتى يُسهل إعادة تشكيل شعبه على المقاييس الصهيونية.
لم يكن ترويض غزة هدفا لليمين الإسرائيلى وحده، بل كان هدفا أمريكيا أيضا لا يختلف عليه الديمقراطيون والجمهوريون، فالرئيس الأمريكى السابق جو بايدن وفريقه يتفقون مع الرئيس دونالد ترامب وفريقه فى أنه لا أمن ولا استقرار لإسرائيل وفرضها كدولة طبيعية فى المنطقة، إلا بتفكيك عقيدة غزة القتالية وسحق هويتها المتمردة الرافضة للانسحاق والخضوع، وهذا لن يتأتى إلا بنزع سلاح المقاومة أولا.
«لو استسلمت حماس وألقت سلاحها، قد تنتهى الحرب غدا.. ولو لم تقم بذلك فيتعين على إسرائيل اتخاذ الخطوات اللازمة لضمان عدم تكرار ما جرى فى 7 أكتوبر»، هكذا أجاب وزير الخارجية الأمريكى السابق أنتونى بلينكن، عندما سئل: «لماذا لا تضغط بلادكم لوقف الحرب على غزة؟»، وهكذا أيضا يعتقد ترامب وفريقه، فعلى حماس أن تلقى سلاحها فورا «إن لم تفعلها فسنفعلها نحن».
لن توقف خطة ترامب الحرب إلا بعد نزع سلاح المقاومة، فرهان إسرائيل والولايات المتحدة منذ اندلاع الحرب هو بلوغ هذا الهدف؛ ضاعفوا الضغط العسكرى واستخدموا سلاح التجويع ضد أهل القطاع حتى يكفروهم ليس فقط بـ«طوفان الأقصى» بل بالمقاومة المسلحة كمسار لاسترداد الحقوق المهدورة.
رسمت تل أبيب ومعها واشنطن منذ البداية مشهدا لخروج قادة الفصائل من القطاع مطأطئى الرءوس وهم يرفعون الراية البيضاء، لتصدير مشهد «النصر المطلق» ولإثبات أن لا أحد بمقدوره مجابهة الحلف الاستعمارى الذى تُمثله إسرائيل فى الشرق الأوسط.
أرادوا أن يكرروا مشهد خروج قادة منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت عام 1982، بعد عملية «سلامة الجليل» والتى استشهد خلالها ما يقرب من 20 ألف فلسطينى ولبنانى. ورغم تنفيذ ياسر عرفات ورفاقه ما يخصهم من الاتفاق، وخروجهم من بيروت، فإن إسرائيل والمتعاونين معها ارتكبوا مجزرة «صبرا وشاتيلا».
من قلب ركام تلك المعركة خرج «حزب الله»، بعد أن امتلأت الصدور بمشاعر الغضب والثأر، لتتغير المعادلة ويخوض الحزب لاحقا معارك أكثر عنفا وشراسة امتدت لأكثر من أربعة عقود، حتى جرى ما جرى فى نوفمبر الماضى.
استئصال المقاومة فكرة مستحيلة، فحتى لو نجحت إسرائيل فى القضاء على كتائب المقاومة بفلسطين ولبنان، فحتما سيخرج من تحت الأنقاض من هم أشد بأسا وشراسة.
من المفهوم أن يضغط صهاينة تل أبيب وواشنطن لنزع سلاح المقاومة وترويض غزة؛ لكن ما لا يمكن استيعابه أن تشاركهم أطراف عربية فى الضغط لتحقيق ذات الهدف، وأن تكرس تلك الأطراف منصات إعلامها للترويج لتلك الفكرة، يدعو هؤلاء حماس لنزع سلاحها ولا يجرؤ أحد منهم على الاقتراب من سلاح الدولة التى تمتلك ترسانة نووية تهدد بها المنطقة بأسرها.