ملاحظات حول السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الأحد 19 أكتوبر 2025 11:18 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

ملاحظات حول السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية

نشر فى : الأحد 19 أكتوبر 2025 - 7:55 م | آخر تحديث : الأحد 19 أكتوبر 2025 - 7:55 م

الواقع أنه أمر طيب أن يكون أسلوب إحدى وزارات الحكومة هو عرض خططها المستقبلية على الرأى العام أولا ثم مناقشة هذه الخطط فى اجتماعات أصغر مع الخبراء والمختصين على أمل أن تسترشد الحكومة بهذه الآراء فى إعادة صياغة خططها، وإن كانت بعض التجارب السابقة، والتى شاركت فى إحداها وهى تجربة المحور السياسى فى الحوار الوطنى قد انتهت بالتجاهل الكامل لكل مخرجات الحوار فى هذا المحور على الأقل، ولكن دعونا نتسلح بالتفاؤل على أمل أن تكون هناك استجابة لما يطرح من آراء فى مثل هذه الاجتماعات. وسأعرض تعليقى على السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية التى طرحت إصدارها الأول وزارة التخطيط. وتدور تعليقاتى حول عنوان السردية، وإغفالها لماضى سياسات التنمية فى عهد الرئيس السيسى، وتجاهلها لقضايا مهمة مثل الفقر وإعادة توزيع الثروات والدخول وأخيرا تواضع الأهداف التى صاغتها هذه السردية وكونها لا تكفى لا لتغيير نمط الاقتصاد الريعى فى مصر ولا النهوض حقيقة بأوضاع المواطنين.
تركيز السردية على التنمية الاقتصادية وحدها
التركيز الأساسى لهذه الوثيقة هو التنمية الاقتصادية، وكان تعبير التنمية الاقتصادية شائعا فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى عندما بدأ علماء الاقتصاد يتحدثون عن مستقبل البلاد التى تحررت من الوجود الاستعمارى، ولكن توسعت أدبيات التنمية فى تعميق الفهم بالتنمية وأضافت للتنمية الاقتصادية أبعادا جديدة مثل التنمية البشرية والتنمية المستدامة. وقد أحسن المرحوم دكتور نادر فرجانى الذى أشرف على الصيغة العربية لتقرير التنمية البشرية فأسماها التنمية الإنسانية، وشدد على أن معاييرها تشمل رفع قدرات الوطن العربى فى إنتاج المعرفة وتوسيع الحريات وتضييق فجوة النوع. تتجاهل هذه السردية كل ما جرى لفكر التنمية منذ سبعينيات القرن الماضى، وتهتم فقط بالسياسات الداعمة للنمو والتشغيل، وتقتصر فصولها الخمس على تناول مسائل استقرار الاقتصاد الكلى والاستثمار الأجنبى المباشر والتنمية الصناعية والتجارة الخارجية، وكفاءة ومرونة سوق العمل والتخطيط الإقليمى لتوطين التنمية الاقتصادية. ومن المشروع أن يتساءل المواطن والمواطنة فى مصر وماذا لنا فى هذه التنمية الاقتصادية؟ طبعا أتوقع رد من كتبوا هذه الوثيقة أنه لو نجحت الحكومة فى تحقيق أهدافها فى هذه المحاور فسوف يتحسن مستوى الدخل وتختفى البطالة ويتلاشى الفقر. هذه إجابة ثبت خطؤها ليس نظريا فحسب ولكن فى التجربة المصرية ذاتها. الذين كتبوا هذه الوثيقة ما زالوا يؤمنون بتلك الفكرة العتيقة بتساقط ثمار النمو. نجح حكم مبارك فى سنواته الأخيرة فى رفع مستوى النمو الذى اقترب من 7٪ فى بعض السنوات، ومع ذلك لم تتساقط ثماره على المواطنين، ولذلك خرجوا بالملايين يدعون لسقوط هذا النظام فى يناير وفبراير 2011.
إغفال التساؤل عن أسباب إخفاق تجربة النمو فى السنوات السابقة
ألم يكن من واجب من عكفوا على كتابة هذه الوثيقة أن يتساءلوا ولماذا أخفقت السياسات السابقة فى توليد النمو الاقتصادى ووقاية المواطنين والمواطنات من شر الفقر. هذا السؤال الخاص بأسباب إخفاق السياسات السابقة ليس سؤالا أكاديميا ولا هو فخ يقصد منه إحراج الحكومة، ولكنه سؤال يقع فى صميم التخطيط الرشيد للمستقبل، فكيف يبنى الحاضر والمستقبل دون وعى صحيح بأسباب الفشل فى الماضى حتى يمكن تجنبها. وليست الإجابة السهلة على هذا السؤال هى فقط الأولويات المغلوطة لتوزيع الاستثمارات العامة والخاصة، ولكن حتى لو كانت هذه التوجهات صحيحة، فسوف يتعين إيجاد الموارد الداخلية اللازمة لترجمتها على أرض الواقع. سبب رئيسى لتواضع معدلات التنمية فى مصر هو انخفاض معدل الادخار، ومن ثم يعجز الاقتصاد الوطنى عن توليد الاستثمارات المحلية الضرورية لرفع هذه المعدلات ويسقط حتما تحت رحمة موارد خارجية أغلبها فى صورة استثمارات أجنبية تدفقها على مصر بكميات كافية لعلاج هذا العجز بين الادخار الضعيف ومعدل الاستثمار المطلوب يكاد يكون أمرا فى حكم الغيب. وإذا تحقق فليس من المؤكد أن يتوجه إلى القطاعات التى تحقق التنمية الاقتصادية بمعناها الصحيح، ولا أن يقترن ذلك بمدفوعات خارجية فى صورة أرباح وفوائد ورسوم نقل تكنولوجيا وغيرها ينوء تحت كاهلها الاقتصاد الوطنى وتبقيه أسيرًا للمديونية الخارجية لسنوات طويلة.
العدالة الاجتماعية: الفريضة الغائبة فى سردية التنمية الاقتصادية
النقص الذى لا يغتفر فى هذه الوثيقة هو إغفالها التام لقضية العدالة الاجتماعية بكل أبعادها، وهو ما يكشف أيضا عن الانفصام بين الفكر الذى تستند إليه هذه الوثيقة والنقاشات الجارية بين كبار الاقتصاديين فى العالم حول العدالة الاجتماعية، واتساع الفجوة فى الدول المتقدمة عموما بين الأغنياء والفقراء، وهى النقاشات التى كانت باكورتها كتاب الاقتصادى الفرنسى بيكيتى حول رأس المال فى القرن الحادى والعشرين وكتبه اللاحقة. ومع أن البيانات الإحصائية وفى مقدمتها بحث الدخل والإنفاق الذى يصدره الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء لا تكشف عن الأبعاد الكاملة لافتقاد العدالة فى توزيع الدخول والثروات فى مصر، إلا أن المؤشرات حاضرة صيفا وشتاء وفى كل المجالات من مؤسسات التعليم والصحة وأماكن التصييف وحتى ما يقال عن سبل كسب عضوية المجالس النيابية. ومن المعروف أن المزيد من تضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء له عائد إيجابى على معدلات النمو إذ يرفع من إنتاجية العمل ويوسع السوق الداخلية خصوصا للسلع الاستهلاكية، كما أن له آثارًا إيجابية على الاستقرار الاجتماعى والسياسى. لا يوجد فصل خاص بالعدالة الاجتماعية فى هذه الوثيقة، ولكن حتى لا نظلمها تذكر العدالة الاجتماعية فى فقرة واحدة فى صفحة ٥٦٨ عنوانها تعزيز العدالة الاجتماعية ودعم الفئات الأكثر احتياجا من خلال حزمة حماية متكاملة، ولا تأتى هذه الفقرة اليتيمة فى وثيقة تضم 665 صفحة بجديد يتجاوز الإجراءات المعهودة وفقا لتوجيهات السيد الرئيس مثل تقديم دعم إضافى للأسر المقيدة على البطاقات التموينية وزيادة مؤقتة لمخصصات برنامج تكافل وكرامة. بل إنه فيما يتعلق بالالتزامات الدستورية بالنسبة للإنفاق العام على الصحة والتعليم وهى 3٪ من الناتج المحلى للأولى و4٪ للثانية، تعترف المؤشرات الكمية فى القسم الإحصائى للوثيقة بعدم بلوغ هذه النسب فى الوقت الحالى 2023/2024 والتى لا تتجاوز 1.4٪ للصحة و1.9 ٪ للتعليم، ولا تصل إلى التمنى بوصول هذه النسب لما قرره الدستور فى السنة النهائية للخطة الواردة فى الوثيقة، والتى سترتفع فى حالة الصحة إلى 1.8٪ وفى التعليم إلى 3٪ فى سنة 2028/2029.
أهداف السردية متواضعة للغاية
وأخيرا الأهداف الكمية التى تحددها الخطة سواء لمعدل نمو الناتج المحلى أو التركيبة القطاعية له أو معدل الاستثمارات المحلية هى متواضعة بالمقارنة بما هو مطلوب للقضاء على البطالة والحد من الفقر أو الانتقال إلى اقتصاد يعتمد على القطاعات الإنتاجية وليس على الموارد الريعية أو توفير قدر كافٍ من الاستثمارات المحلية يؤدى إلى بلوغ معدلات النمو المرجوة. للتوضيح يعترف الاقتصاديون بأنه لابد من نمو الناتج المحلى الإجمالى بمعدل يصل إلى ٧٪ سنويا لفترة معقولة حتى يتم توفير عمالة كاملة ومنتجة والحد من الفقر. الدول التى نجحت فى ذلك خصوصا فى شرق آسيا مثل الصين وكوريا الجنوبية كان ناتجها المحلى ينمو وعلى مدى سنوات طويلة بما يتجاوز ٨٪ على الأقل سنويا وأحيانا أكثر من ١٠٪ فى بعض السنوات. الوثيقة تبدأ بمعدل نمو للناتج المحلى هو ٣.٤ ٪ فى السنة المالية الحالية ويرتفع تدريجيا ولكنه لا يصل إلى ٥٪ حتى سنة ٢٠٢٧/٢٠٢٨ عندما يبلغ ٥.٥٪ فى سنة ٢٠٢٧/٢٠٢٨ ويتجاوز ذلك ليصل إلى ٦٪ فى سنة ٢٠٢٨/٢٠٢٩. وسبب تواضع هذه المعدلات هو انخفاض نسبة الاستثمارات الكلية من الناتج المحلى الإجمالى والتى لا تتجاوز ١١.٧٪ فى السنة الحالية وتصل تدريجيا إلى ١٧.٢٪ فى سنة ٢٠٢٨/٢٠٢٩. من المعروف أيضا أن نسبة الاستثمارات الكلية فى دول شرق آسيا بل وجنوبها مثل الهند كانت لا تقل عن ٣٠٪ بل وأحيانا ٤٠٪ من الناتج المحلى الإجمالى، ولهذا حققت هذه الدول معدلات النمو المرتفعة التى مكنتها من احتواء البطالة والتخفيف بل والقضاء على الفقر. وتعلق الوثيقة الأمل حتى فى بلوغ هذه المعدلات المتواضعة على استقدام رءوس أموال أجنبية. وأخيرا لا تعد هذه الوثيقة بتحولات هامة فى بنية الاقتصاد الوطنى، فالشرط الضرورى لتحقيق التحول البنيوى هو ارتفاع نصيب الصناعة التحويلية من الناتج المحلى الإجمالى، وهو يصل إلى حدود ٢٥٪ فى حالة الدول الصناعية الجديدة. تتوقع هذه الوثيقة أن ترتفع مساهمة الصناعة التحويلية غير البترولية فى الناتج المحلى الإجمالى من ١١.٩٪ فى السنة المالية الحالية لتصل بالكاد إلى ١٦.٥٪ فى سنة ٢٠٢٨/٢٠٢٩، ولكنها تعلق الأمل على الوصول إلى نسبة ٢٥٪ فى سنة ٢٠٥٠ بعد تنفيذ الإصلاحات المأمولة فى الاقتصاد المصرى.
هل سيكون لهذا الحوار صدى؟
وأخيرا خير فعلت وزارة التخطيط بطرحها هذه الوثيقة للحوار العام، ولكن نأمل أن يكون عائد الحوار العام حول هذه الوثيقة مختلفا عن تجارب حوار كثيرة سابقة.

مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات